تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان يتزيا بزي المتصوفة، وينطبع بطابعهم وسمتهم، في شبابه ورجولته وأيام جهاده للاتصال بالوزراء، وقبل أن يندمج بالصوفية اندماجه العلمي الأخير.

وكان يأنس إليهم، ويصاحبهم، فقد سأله ابن سعدان عن شخص، فقال له: والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس والاسترسال، وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسُومَتِهِ عندما رأيته سنة 369هـ.

وقد عابه أبو الوفاء المهندس بمخالطة الصوفية. وله أدعية كثيرة مستوحاة من تصوف معتدل رفيع (!)، منها كتابه الإشارات الإلهية، كقوله: " اللهم خذ بأيدينا، فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي تصلح القلوب، وتُنقي الجيوب، حتى نعيش في هذه الدار مصطلحين على خير، مؤثرين للتقوى، عاملين بشرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعافية التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الإطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء ".

على أنه اختار شيراز مقاماً له، لأنها عامرة بالصوفية، ومات بها، ودفن في قبر بجوار المتصوف ابن عفيف.

ذكر آدم متز أن التصوف البغدادي قد ذاع في العالم الإسلامي في أواخر القرن الثالث الهجري "إذ حمل تلاميذ السري السقطي مذاهب الصوفية البغداديين إلى أنحاء المملكة الإسلامية، فحملها موسى الأنصاري (المتوفى حوالي 320هـ) إلى خراسان، والروذباري (المتوفي سنة 322 هـ بالفسطاط) إلى مصر، وأبو زيد الآدمي (المتوفى عام 341هـ) إلى جزيرة العرب.

وكذلك ظهر التصوف بمدينة نيسابور على يد أبي علي محمد ابن عبدالوهاب الثقفي (المتوفى 328هـ) وكانت شيراز بنوع خاص مملوءة بالصوفية حوالي آخر القرن الرابع".

لكن أبا حيان يأبى إلا أن يكون في تصوفه كما كان في أدبه وثقافته صاحب رأي، وصاحب شخصية متميزة، ولهذا لم يتصوف تصوفاً عامياً أو شعبياً، ولم يتصوف تصوف الذين يمسهم (الجذب) وفقدان الإدراك، بل إنه يرى أن التصوف قد أصابه التخليط، وأفسده الدخلاء.

يقول: إن الطريقة قد لحقها حيف لكثرة الدخلاء فيها، كما لحق البلاغة لكثرة مدعيها، وهذا هو السبب في أنه ليس صاحب مذهب خاص في التصوف.

ويظهر أنه كان يمزج الفلسفة بالتصوف، ويجمع بين مذهب النساك والمتصوفة، ومذهب أهل التفكير والفلسفة، لأنني لا أجد له مذهباً مستقلاً في تصوفه، ولا مذهباً معيناً في تفلسفه "فقد عرف كل المذاهب، وانتقى منها، وحمل على التقليد في كل منها، سواءً أكان في الدين أم في الفلسفة".

وإن هذا الحكم ليزداد وضوحاً بعد عرض بعض العقائد الكبيرة عند المتصوفة والموازنة بينها وبين موقف أبي حيان منها.

1 - غالى بعضهم في الحالة التي تعتريه، سواء أفسرناها بأنها دعوى وحدة الوجود أم فسرناها بأنها وحدة الشهود.

ولست أجد في كتب أبي حيان شيئاً من هذا كله.

2 - ظهرت عند بعض الصوفية نزعة إلى التحرر مما في هذه الدنيا حتى الشريعة، يحكي ابن حزم أن "منهم من يقول إن من عرف الله سقطت عنه الشرائع. نعوذ بالله من الضلال"، ويذكر أن بعضهم فضل بعض الأولياء على جميع الرسل والأنبياء. ويذكر القشيري في رسالته التي ألفها سنة 437هـ أن أكثر شيوخ الصوفية المحققين قد انقرضوا، وصار المتصوفة يعدون قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ويرفضون التمييز بين الحرام والحلال، ويستخفون بأداء العبادات، ويستهينون بالصوم والصلاة، ولم يكتفوا بذلك، بل ادعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وليس لله عليهم عتب ولا لوم!

ولم يكن أبو حيان يدين بشيء من هذا، فقد حج في جماعة من إخوانه الصوفية سنة 354هـ، فأدى الفريضة، وكان كما وصفه ياقوت يتعبد والناس على ثقة من دينه.

3 - اشتهر كثير من المتصوفة في القرن الرابع والخامس بمعاشرة المخالفين، ورفقة النساء، وصحبة الأحداث، ولكن أبا حيان لم يخالط هؤلاء، وكانت صلاته بالعلماء والأدباء والحكام والمتصوفة.

4 - غلبت العزوبة على المتصوفة في القرن الرابع، على الرغم من أن أكثر الصوفية القدماء كانوا متزوجين.

والسبب في إيثارهم العزوبة أن تخلو قلوبهم من المشاغل، وأن يبرءوا من الشهوات والمعاصي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير