السبب الثاني: عدم التفريق بين الانتساب إلى المنهج وبين الإتباع له , فقد وقع خلط كبير بينهما , وهذا الخلط أدى إلى التباسات كثيرة أيضا, وذلك أن البعض يظن أن من ضروريات الإتباع لمنهج السلف الانتساب إليه مطلقا , وهذا غير صحيح , بل الذي يجب في كل حال هو الإتباع لمنهج السلف فقط , وأما الانتساب لمنهجهم , وهو إعلان المرء إتباعه لمذهب السلف وانتماءه له , فهو منوط بوجود المصلحة وانتفاء المفسدة , فإن وجدت المصلحة وانتفت المفسدة فليعلن إتباعه , وأما إن وجدت مفسدة من إعلانه , فإن الجواب عليه ألا يعلن إتباعه , كأن يكون في إعلانه لكونه من إتباع مذهب السلف مثلا سبب للتفرقة بين الأمة وحدوث الشقاق بينها , فالواجب في هذه الحالة عدم الانتساب إلى السلف؛ لأن المحافظة على جماعة المسلمين أولى من مجرد إعلانه أنه سلفي أو سني , ولا يعني هذا أنه تخلى عن منهجه أو مبادئه.
ومثل الانتساب تماما ذِكرُ الفرق والطوائف ومذاهبها , فذكر افتراق الأمة وأعيان فرقها منوط بالمصلحة أيضا , فليس يحمد دائما ذكر الفرق وبيان أقوالها والحكم عليها , وبيان مصيرها , بل لا بد من اعتبار الحال والزمان والمكان , فإن غلب على ظن المرء أن ذكر الفرق والطوائف يؤدي إلى مفسدة , فالجواب عليه عدم ذكر ذلك حينئذ.
وهذا الحكم غير واضح عند كثيرين, فيُظن أن من مقتضيات إتباع مذهب السلف –باعتباره المذهب الحق - أن يُعلن ذلك دائما وأن يُذكر افتراق الأمة والحكم على الفرق الأخرى بالهلاك , وهذا كله غير صحيح.
وكذلك بعض من يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف يظن أن الدعوة إلى الأخذ بمذهب أهل السنة فيه دعوة لتكريس الخلاف وتوسيع الشقاق بين الأمة؛ باعتبار أن الدعوة إلى مذهب السلف دعوة إلى إعلان ذلك مطلقا من غير مراعاة للواقع والحال.
والوعي بهذه التفرقة هام جدا في تقدير الموقف من الافتراق بين الأمة , وهو هام أيضا في تحديد الموقف ممن يدعو إلى إسلام ما قبل الخلاف؛ لأنه ليس كل من دعى إلى تلك الدعوة يقصد الدعوة إلى ترك الإتباع , بل بعضهم يقصد الدعوة إلى ترك الانتساب لما يراه من مصلحة في ذلك.
السبب الثالث: عدم التفريق بين المنهج من حيث هو وبين التخريج على المنهج , فكثير لا يكاد يفرق بين الأصول والأقوال التي بناها الصحابة والأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم بأنفسهم أو اعتبروها في صريح أقوالهم وتصرفاتهم , وبين ما يخرجه المتأخر عنهم على أصولهم , ويجعله في مرتبة واحدة , وهذا خطأ أدى إلى التباسات متعددة , فلا بد لنا أن نفرق بين منهج أهل السنة من حيث هو وبين التخريج عليه؛ لأن ذلك المنهج قد انتهى من حيث البناء , وكل من جاء بعد الصحابة والأئمة المعتبرين وأتى بشيء جديد ونسبه إلى السلف , فنسبته إليهم إنما هي على جهة التخريج على أقوالهم فقط , وهو قد يكون مصيبا في ذلك التخريج وقد يكون مخطئا , وليس لقوله من الحرمة ما لأقوال الأئمة , ومن خالفه في تخريجه فهو ليس مخالفا للسلف.
ويظهر أثر هذا التفريق في كثير من المسائل التي ظهرت في عصور متأخرة كالمسائل الفكرية المعاصرة , فقد يأتي باحث ما ويخرج موقفا اتجاه قضية معينة بناءً على أصول السلف , وهذا ليس مشكلا , ولكن المشكل حقا هو أن يجعل قوله قولا للسلف! , له ما لقول السلف من حرمة , ومن خالفه فكأنما خالف قول السلف , وهذا كله غير صحيح.
والوعي بهذا نافع في تقليص الخلاف الواقع بين أتباع السلف في عصرنا , فإن أكثر اختلافاتهم إنما هي في التخريج لا في الالتزام بالأصول , وهو نافع أيضا في تقدير منزلة الأقوال والبحوث المذكورة حول المسائل الحداثة , ومن ثم حسن التعامل معها.
فهذه الأسباب الثلاثة هي أهم الأسباب في نظري التي أدت إلى اللبس في تقييم واقع الافتراق بين الأمة ومن ثم الدعوة إلى الخروج من ذلك كله والرجوع إلى إسلام ما قبل الخلاف.
ولكن بالتفطن لمواقع الغلط في تلك الأسباب , وتمييز مواطن الصحة فيها ,فلا ضرورة حينئذ لإثارة الدعوة إسلام ما قبل الخلاف بالصورة التي نجدها من يقصد بتلك الدعوة الإتباع حتى لمنهج السلف , وإنما الضرورة كل الضرورة في دعوة الناس إلى منهج السلف وإظهاره للناس مع ضرورة ترشيد الناس إلى حسن التعامل مع الخلاف والافتراق.
([1]) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث (327).
([2]) انظر: في ضلال القرآن في الميزان (29).
([3]) أخرجه: الهروي في ذم الكلام وأهله (5/ 117).
([4]) أخرجه: اللالكائي في شرح أصول السنة (1/ 176).
([5]) أخرجه: ابن بطة في الإبانة كبرى (1/ 322).
([6]) أخرجه: الترمذي (2640) , وأبو داود (4596) , وابن ماجه (3991) , وصححه: الحاكم وابن تيمية والألباني ,وغيرهم , انظر: المستدرك (2/ 480) , الفتاوى (3/ 345) , والسلسلة الصحيحة (3/ 480).
([7]) أخرجه: البخاري (6881).
([8]) أخرجه: البخاري (6882).