قال شيخ الإسلام: وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول , وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد؛ فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما , وعلم بهذا أنه يمتنع أن يكون ثم إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات.
ثم يقال أما كونها عامة لكل ما يصدر عنه فامتناعه ظاهر متفق عليه بين العقلاء؛ فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا؛ فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس والقمر والكواكب وحركة الرياح وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن.
وأما إرادة شيء معين فلما تقدم ولأنه حينئذ إما أن يقال ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية , وإما أن يقال له إرادات تحصل شيئا بعد شيء؛ فإن قيل بالأول فإنه على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مراده كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له وهذا باطل لوجهين:
أحدهما: أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية.
الثاني: أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب الحادث كالقول في غيره يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة الحادث المعين مشروط بإرادة له وبإرادة للحادث الذي قبله وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات.
وهذا هو التقدير الثاني؛ وهو أن يقال لو أراد أن يحصل شيئا بعد شيء فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن , وهو وحده المنفرد بالقدم والأزلية , وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وعلى هذا التقدير فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها وهذا هو التقدير الذي تكلمنا عليه ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه , وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين.
فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله سواء سمى جسما أو عقلا أو نفسا وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها وأنه لا أول لها أوقيل بامتناع ذلك وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث أو قيل بامتناع ذلك وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير وهذا هو المطلوب.
منهاج السنة (1
296 - 298)
وقال: و أيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضى حدوثه وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.
مجموع الفتاوى (6
231)
وقال: وهو سبحانه إذا أراد شيئا من ذلك فللناس فيها أقوال:
قيل الإرادة قديمة أزلية و احدة , و إنما يتجدد تعلقها بالمراد ونسبتها إلى الجميع واحدة و لكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص فهذا قول ابن كلاب و الأشعرى و من تابعهما , وكثير من العقلاء يقول إن هذا فساده معلوم بالاضطرار حتى قال أبو البركات ليس فى العقلاء من قال بهذا , و ما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر و الكلام و بطلانه من جهات من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك و من جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها و من جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تخصص أو لا تخصص بل تجددت نسبة عدمية ليست و جودا و هذا ليس بشيء فلم يتجدد شيء فصارت الحوادث تحدث و تتخصص بلا سبب حادث و لا مخصص.
و القول الثاني: قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء لكن يقول تحدث عند تجدد الأفعال إرادات فى ذاته بتلك المشيئة القديمة كما تقوله الكرامية و غيرهم.
¥