فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى، مع نفي الجسمية، هو أنه ليس في الشاهد مثال له. فهو بعينه السبب في أن لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد، مثل العلم، فإنه لما كان في الشاهد شرطاً في وجوده كان شرطاً في وجود الصانع الغائب. وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب لهم مثالاً من الشاهد إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإن لم يكن ذلك المثال هو نفس الأمر المقصود تفهيمه، مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد.
الكشف عن مناهج الأدلة (67 - 69)
وأما لفظ الجهة فهو من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة والأصل الاستفصال عن المعنى المراد.
قال شيخ الإسلام: وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم؛ فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل أنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ,ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قيل في قوله: أنه في السماء: أي على السماء , وعلى هذا التقدير؛ فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلا عن أن يحتاج إليها, وإن أريد بالجهة ما فوق العالم؛ فذلك ليس بشيء ولا هو أمر وجودي حتى يقال أنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه , وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة.
بيان تلبيس الجهمية (1
520)
المسألة التاسعة عشرة: المعدوم هو الذي يقال له لا فوق ولا تحت
قال ابن رشد: وأما السبب الثاني:- فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس , وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم.فإذا قيل لهم:إن ها هنا موجودا ليس بجسم , ارتفع عنهم التخيل , فصار عندهم من قبيل المعدوم ولا سيما إذا قيل: أنه لا خارج العالم ولا داخله ولا فوق ولا أسفل.ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها مُلَيِّسَة وأعتقد الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة.
الكشف عن مناهج الأدلة (61)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك, ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك؛ فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً!.
"درء تعارض العقل والنقل" (3/ 229).
المسألة العشرون: الرؤية
قال ابن رشد: فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة. وذلك أن الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية.فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية. وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك عليهم , ولجئوا في الجمع إلى الأقاويل سوفسطائية , سنرشد إلى الوهن الذي فيها عند الكلام في الرؤية.
ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة , في بادئ الرأي, عن الخالق سبحانه , أنه ليس بجسم , فترجع الشريعة متشابهة. وذلك أن بعث الأنبياء انبنى على أن الوحي نازل إليهم من السماء. وعلى ذلك انبتت شريعتنا هذه، أعني: أن الكتاب العزيز نزل من السماء كما قال تعالى: {إنا أنزلنه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء. وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال تعالى:
¥