وأما إثبات أن الرؤية لا بد أن تكون من جهة فهذا مما اتفق عليه العقلاء
يقول شيخ الإسلام: وإنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بداية العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال: ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر. فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورا في الدنيا وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية مالا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بداية العقول, وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون ما اتفق أهل العقول على أنه من الممتنع في بداية العقول.
بيان تلبيس الجهمية (1
359)
المسألة الحادية والعشرون: النبوة
قال ابن رشد: وأما ما يشترطونه، لمكان هذا، من أن المعجز إنما يدل على الرسالة، بمقارنة دعوى الرسالة له، وأنه لو ادعى الرسالة من شأنه أن يظهر على يديه، ممن ليس برسول، لم يظهر على يديه، فدعوى ليس عليها دليل. فإن هذا غير معلوم لا بالسمع ولا بالعقل. أعني أنه إذا ادعى من تظهر على يديه دعوى كاذبة، أنه لا يظهر على يديه المعجز. لكن، كما قلنا، لما كان لا يظهر من الممتنع أنها لا تظهر إلا على أيدي الفاضلين الذين يعنى الله بهم، وهؤلاء إذا كذبوا ليسوا بفاضلين، فليس يظهر على أيديهم المعجز. ولكن ما في هذا المعنى من الإقناع لا يوجد فيمن يجوز ظهورها على يدي الساحر، فإن الساحر ليس بقاضل.
فهذا ما في هذه الطريقة من الضعف؛ ولهذا رأى بعض الناس أن الأحفظ لهذا الوضع أن يعتقد أنه ليس تظهر الخوارق إلا على أيدي الأنبياء، وأن السحر هو تخيل لا قلب عين. ومن هؤلاء من أنكر، لمكان هذا المعنى، الكرامات.
وأنت تتبين من حال الشارع صلى الله عليه وسلم أنه لم يدع أحدا من الناس ولا أمة من الأمم إلى الإيمان برسالته وبما جاء به بأن قدم على يدي دعواه خارقاً من خوارق الأفعال، مثل قلب عين من الأعيان أخرى. وما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من الكرامات الخوارق، فإنما ظهرت في أثناء أحواله، من غير أن يتحدى بها. وقد يدلك على هذا قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} إلى قوله: {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} [الإسراء: 90 - 93]. وقوله تعالى: {وما منعنا أن ترسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء: 59].
وإنما الذي دعا به الناس وتحداهم به هو الكتاب العزيز، فقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]. وقال {فاتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود: 13].
وإذا كان الأمر هكذا فخارقه صلى الله عليه وسلم الذي تحدى به الناس وجعله دليلاً على صدقه فيما ادعى من رسالته هو الكتاب العزيز.
الكشف عن مناهج الأدلة (100 - 101)
وقال ابن رشد: فمن هذه الأشياء يرى أن المتكلمين ذهب عليهم هذا المعنى من وجه دلالة المعجز. وذلك أنهم أقاموا الإمكان مقام الوجود، أعني الإمكان الذي هو جهل. ثم صححوا هذه القضية، أعني أن كل من وجد منه المعجز فهو الرسول وليس يصح هذا إلا أن يكون المعجز يدب على الرسالة نفسها وعلى المرسل. وليس في قوة الفعل العجيب الخارق للعوائد، الذي يرى الجميع أنه إلهي، أن يدل على وجود الرسالة دلالة قاطعة، إلا من جهة ما يعتقد أن من ظهرت عليه أمثال هذه الأشياء فهو فاضل، والفاضل لا يكذب. بل إنما يدل على أن هذا رسول إذ سلم أن الرسالة أمر موجود، وأنه ليس يظهر هذا الخارق على يدي أحد من الفاضلين إلا على يدي رسول.
وإنما كان المعجز ليس يدل على الرسالة لأنه ليس يدرك العقل ارتباطاً بينهما، إلا أن يعترف أن المعجز فعل من أفعال الرسالة، كالإبراء الذي هو فعل من أفعال الطب، فإنه من ظهر منه فعل الإبراء دل على وجود الطب، وأن ذلك الطبيب. فهذا أحد ما في هذه الاستدلال من الوهن.
¥