ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة في حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم في مرتكب الكبيرة عند الله؛ إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود في النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله.
وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل فلم يقم به فأنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً؛ وذلك أن أهل السنه لايخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف.
كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة في الإيمان والتوحيد، كذلك حكم الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه.
والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون في بعض أسس الإرجاء.
الفصل الثالث
كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب؟
أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض اطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم وما جرى بين علي ومعاوية كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن على طريقته إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان ? وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً.
فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولاتنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لايتزعزع.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة الإسلامية.
ولقد احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته (السلف) أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار (الخوارج) لأنه أخل بالعمل فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار (المعتزلة)؟
أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقاً (المرجئة) لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملاً إذا كان التصديق موجوداً في قلبه وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلاً.
فبينما الخوارج يرون أن مرتكب الذنب كافرا مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجياً، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزلياً، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم من أهل الإيمان الكامل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
من اول من قال بالإرجاء؟ وبيان أهم زعماء المرجئة
¥