وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بينا أَن الشرّ بالحقيقة إِما عدم ضروريات الشيء، وإِما عدم منافعه. [فنقول]: [الموجود] إِما أن يكون خيراً من كل الوجوه، وشراً من كل الوجوه أَو خيراً من وجه وشراً من وجه. وهذا على تقدير أقسام: فإِنه إِما أَن يكون خيره غالباً على شره، أو يكون شره غالباً على خيره، أَو متساوياً خيره وشره، فهذه أقسام خمسة.
أما الذى يكون خيراً من كل الوجوه وهو موجود-[أما] الذى يكون كذلك لذاته- فهو الله تبارك وتعالى، وأما الذى يكون [خيره] لغيره فهو العقول والأَفلاك، لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من [كمالاتها] أما الذى كله شر أو الغالب فيه أَو [المتساوي] فهو غير موجود لأن كلامنا فى الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم الكمال الزائد، [وإذا عنينا بالشر] ذلك فلا شك أن ذلك مغلوب والخير غالب لأَن الأَمراض وإن كثرت إِلا أَن الصحة أَكثر منها، فالحرق والغرق والخسف، وإن كانت قد تكثر إِلا أن السلامة أكثر منها.
فأما الذى يكون خيره غالباً على شره فالأولى فيه أن يكون موجوداً لوجهين: الأَول أَنه إِن لم يوجد فلا بد وأَن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإِذا فى عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفى وجوده يكون الخير أَغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أولى، مثاله النار: فى وجودها منافع [كثيرة وأيضاً مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها] بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، وكانت مفاسد عدمها أَكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.
الثانى- وهو الذى يكون خيره ممزوجاً بالشر- ليس إلا الأُمور التى تحت كرة القمر فلا شك، أَنها معلولات العلل العالية، فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها، وهى خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض، فإِذاً لا بد من وجود هذا القسم.
فإِن قيل: فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: لأَنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، وذلك مما قد فرغ منه.
وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث.
قلت: لمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به"انتهى.
ـ[أبو قتادة وليد الأموي]ــــــــ[08 - 02 - 10, 07:47 ص]ـ
قال الفخر الرازي:" صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى، ومتى وجدت الداعية كان الفعل واجب الوقوع، وإذا كان كذلك كان الجبر لازمًا" (المحصول: 67 - أ، التفسير 2/ 58).
وقال:" ليس في الوجود إلا الجبر" (المباحث المشرقية2/ 517).
وقال:"الحق إما الجبر، وإما القول بنفي الصانع" (المطالب العالية2/ 170).
انظر للاستزادة: (فخر الدين الرازي آراؤه الفلسفية والكلامية: 529 - 533).
¥