[مسائل تتعلق بروح البلاغة للعلامة النورسي صاحب إشارات الإعجاز]
ـ[أبو الطيب الروبي]ــــــــ[14 - 10 - 09, 09:24 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد!
فقد وقفت على رسالة "عنصر البلاغة" للعلامة سعيد النورسي صاحب كتاب إشارات الإعجاز، فرأيت أن أضعها هنا في حلقات لما فيها من فائدة.
والرجل له باع في هذا الفن وفي غيره من الفنون، ولكن عليه بعض الملاحظات العقدية.
-------
بسم الله الرحمن الرحيم
الطيبات لله والصلوات على نبيه
المسألة الأولى
يخبرنا التأريخ بأسف بالغ انه: لما انجذب الاعاجم بجاذبة سلطنة العرب فَسَد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَري، التي هي اساس بلاغة القرآن؛ اذ لما تعاطى الاعاجم والدخلاء صنعة البلاغة العربية حوّلوا الذوق البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظم المعاني، الى صنعة اللفظ وذلك:
ان المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والاحاسيس انما هو نظم المعاني .. ونظم المعاني: هو الذي يشيد بقوانين المنطق .. واسلوب المنطق: متوجه الى الحقائق المتسلسلة .. والفكر الواصل الى الحقائق: هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسَبها .. ودقائق الماهيات ونسبها هي الروابط للنظام الأكمل في العالم .. والنظام الاكمل: هو المندمج فيه الحسن المجرد الذي هو منبع كل حسن .. والحسن المجرد هو روضة ازاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا .. وتلك الجنة المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها: هي التي تجول فيها بلابل عاشقة للازاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاق الفطرة .. ونغمات تلك البلابل يمدّها صدىً روحاني هو نظم المعاني.
ولكن لما حاول الدخلاء والاعاجم الدخول في صفوف الادباء، فلت الأمر. لأن مزاج الأمة مثلما انه منشأ احاسيسها ومشاعرها، فان لسانها القومي يعبّر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الاحاسيس. وحيث ان أمزجه الامة مختلفة، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت ايضاً، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.
وبناء على هذا فان نظم اللفظ الذي هو ارض قاحلة جرداء لاتصلح لأن تكون مسيلاً لجريان الافكار ومنبتاً لأزاهير البلاغة، اعترض مجرى البلاغة الطبيعي وهو نظم المعنى فشوش البلاغة.
وحيث ان المبتدئين ومن لامهارة لهم احوج من غيرهم الى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيل المعاني اللغوية - بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة - فقد صرفوا جلّ اهتمامهم الى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهل مجرى وأظهر للنظر العابر وآنس للعوام وأولى بأن ينجذبوا اليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله. لذا انجذبوا الى تنميق الالفاظ صارفين اذهانهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها .. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت اذهانهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني. بل حتى غلب اللفظ المعنى وسخّره لنفسه، فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادماً للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ.
فان شئت فادخل في "مقامات الحريري" فانه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حب اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فاصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني - ذلك العملاق - ثلث كتابيه دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، دواءً لعلاج هذا الداء.
نعم! ان حب اللفظ داء، ولكن لايعرف انه داء!
تنبيه:
كما ان حب اللفظ مرض، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الاسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الامراض بالافراط امراضاً مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يضحى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الادباء باساءة الادب والاخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.
نعم! اللفظ يُزيّن ولكن اذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته .. وصورة المعنى تُعظّم وتعطى لها مهابة ولكن اذا أذِن بها المعنى ... والاسلوب يُنوّر ويلمّع ولكن اذا ساعده استعداد المقصود .. والتشبيه يلطّف ويجمّل ولكن اذا تأسست على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب .. والخيال يُنشط ويسيّح ولكن اذا لم يؤلم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وان يكون مثالاً للحقيقة متسنبلاً عليها.
يتبع بإذن الله!