قال الشيخ تتابعت بعد ذلك الحين سنوات طويلة، شرفنا الله تعالى فيها بالعمل لدعوته ودينه عبر أرض الله الواسعة، واستغرقنا ذلك حتى شغلت عن النظر بالرسالة وإعدادها للطباعة، إلى أن ساقني الله تعالى إلى البلد الأمين، وأسكنني عند بيته المحرم، وغمرني بفضله في بركات المكان والزمان، فأقبلت مرة أخرى أتم قصة هذه الرسالة، وأنظر فيها نظرات مراجعة وتمحيص، وكنت فيها كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني (ت 596هـ) فيما كتبه لمعاصره العماد الأصفهاني: "إني رأيتُ أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو ترك هذا لكان يستحسن، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
لذلك جاء هذا البحث منحازا كما قال مؤلفه إلى لواء الوحي الإلهي من أول الطريق، لأنه كان كما أراد له معركة هائلة الوقع، فادحة التكاليف، تدور رحاها بين، دعاة الإسلام، وبين الذين تأثروا بمناهج الفلسفات المادية والإلحادية، والتي صاغت عقولهم وأفكارهم وشكلت أنماط المعاملات والسلوك فيهم، حتى تباعدوا عن الإسلام عمليا وفكريا، ولاذوا بمناهج البشر، وشرائعهم، وأنكروا على الإسلاميين فهمهم الشمولي للإسلام.
7 - عمل مدرسا بالمعاهد الدينية الأزهرية،وابتدأ تلك المرحلة من قلب صعيد مصر،من سوهاج، وفيها ومنها كانت بواكير مؤلفاته العلمية بمقالاتٍ أرسل بها إلى مجلةٍ من مجلات الحركة الإسلامية والتي طال عمرها قليلاً بعد أخواتها من المجلات الإسلامية التي هي دائما هدفٌ لكل ظلوم غشوم، فكانت مقالات الشيخ إحدى معالم هذه المجلة بعد ما لحقت بأخواتها، وكانت تحت عنوان" القرآن دستورنا".
يقول الشيخ: رغم مرور ما يقارب من نصف قرن، على حمالات الخداع والتضليل التي مارسها النظام فلا تزال أحداث هذه الفترة شاخصة أمام سمعي وبصري وعقلي وعصبي لشدة أهوالها!!.
كان الاستبداد الغشوم قد ضرب على الإسلاميين ليلا موحشا، بسب المعاملة الوحشية الموغلة في الانحطاط في سنة 1954م وما بعدها حيث علقوا قادتهم على أعواد المشانق،ليقطعوا على الأمة أي أمل في البعث الإسلامي المنتظر، وأغرقوا الناس في بحار من الرعب والفزع، والتحكم، والإذلال، والتجسس، والترصد، والمحاكمات العسكرية الهزلية، والسجون والمعتقلات، والتعذيب الوحشي، والقتل والجلد، ومصادرة الأموال، وفرض الحراسة .... وبعد أن حصل المطلوب وزيادة من انحلال للأخلاق، وفشوٍّ للنفاق، نقلوا الحملات على الإسلام ذاته، وعلى رجاله من العلماء الذين يمثلونه، كإلغاء المحاكم الشرعية، وإلصاق أخسِّ التهم ببعض القضاة الشرعيين، والحكم عليهم بالسجن المؤبد ظلماً وعدوانا سنة1955م. ثم إصدار قانون تطوير الأزهر أو تدميره في سنة 1961م، وكان رد الفعل عند الناس وقتها موغلا في الضياع، فقد خرست الألسنة، وأطبقت الشفاه، وتواصى الناس ساخرين بحكمة ذلك الوقت العصيب:"الجبن سيد الأخلاق!! " وبحكمة الشاعر القديمة
مِت بداء الصمت خيرٌ من داء الكلام
وكان عجيباً أن تقوم في هذا الوقت صحيفة "صوت الإسلام" فتكون اسما على مسمى، وترفع صوتها بالإسلام عاليا، وتحمل عبئا ثقيلاً في الذود عن الإسلام، والرد على خصومه، بأكثر مما يحتمله الطواغيت الأغرار.
وكانت المجلة تصدرها جماعة (شباب سيدنا محمد r ) بالقاهرة [2].
وكنت في هذا الوقت العصيب مدرسًا مغمورا، في المعهد الديني الأزهري بمدينة (سوهاج) قلب الصعيد بعيدًا عن القاهرة بمئات الأميال.
وقد سارعت بإرسال خطاب للقائمين على تحرير المجلة، تحية لهم، وتقديرا لجهادهم، في زمن نكست فيه الرؤوس والنفوس فلا تسمع ألا همسا، ثم حثثتهم على استفتاء الناس نحو الدستور الذي أراد الطغاة أن يُجَمَّلوا به طغيانهم، شأن الدساتير التي يكونون أول من يدسونها بنعالهم، ويمزقونها بأفعالهم، حتى ليصدق فيهم قول الزهاوي أحد شعراء العراق:
وتعطل (الدستور) عن أحكامه من فرط ما عبثت به الحكام
فالوعي بغي، والتحرر سبةَّ والهمس جرم، والكلام حرام
ومدافعٌ عما يدين مخرَّبٌ ومطالبٌ بحقوقه هدام.
¥