تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي قوله تعالى: {أفلم يدبروا القول}؟ تأنيب شديد للذين أعرضوا عن القرآن، وهجروه، ولا يعبأوا به ولا بما جاء فيه، فلم يدبَّروا القول الذي أنزله الله ليفهموا دلالاته، حتى يهتدوا بهديها، ويعملوا بما جاء فيها.

3ـ ثم أنزل الله على رسوله في المدينة قوله في سورة (النساء): {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً [82]}.

"لقد ورد هذا النص في معرض الحديث عن المنافقين، وهم الذين يتظاهرون بالإسلام، ويعلنون الطاعة، ويحضرون مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قلوبهم غير مؤمنة، وأفكارهم منصرفة معرضة عن كل ما يبيِّن لهم.

هؤلاء قد وضع الله تعالى بين أيديهم ما يدلهم على الحق، ويهديهم سواء السبيل، ويقنعهم، لو أرادوا لأنفسهم النجاة، والسعادة الحقة الأبديَّة، قال تعالى: {أفلا يتدبَّرون القرآن} ولم يُواجههم بهذا الخطاب إعراضاً عنهم في مقابل إعراضهم عن تدبُّر كتابه، وتفهُّم آياته، وفي الاستفهام الإنكاري هذا تلويم لهم على ترك التدبُّر، لعلَّهم يثوبون إلى رُشدهم.

إن هذا التدبُّر الذي يقصد منه البحث عن الحقيقة، والمقرون بالإخلاص في الوصول إليها، سوف يكشف لذوي الاستعداد منهم أن هذا القرآن حقٌّ كلُّه، وأنه منزل من عند الله عز وجل، لأنه لو كان من عند غير الله لاشتمل على اختلاف كثير في الواقع والحقيقة" ([8]).

{أفلا يتدبرون القرآن}؟! "نعم! إنَّهم ولا شك ـ وكل أمثالهم منذ أربعة عشر قرناً، سواء كانوا من الكفار الصُّرحاء، أو من المنافقين ـ لا يتدبرون القرآن! ولو تدبَّروه بعقول وقلوب مفتوحة لعلموا أنه من عند الله عز وجل، وأنه لا يمكن أن يكون من عند غير الله سبحانه!.

إن بشراً في الأرض كلها لا يتأتى أن يخرج كتاباً كهذا الكتاب المعجز على جميع المستويات، وفي جميع الإتجاهات، والذين يتعبرضون للتأليف هم أدرى بهذه الحقيقة، كما كان العرب العالمون بأسرار البلاغة أدرى بحقيقة الإعجاز البلاغي للقرآن.

الاختلاف أوسع من التناقض:

والآية تقرر أنه لو كان القرآن من عند غير الله ـ أي من صنع البشر ـ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وأول ما يرد على الذهن بشأن الاختلاف هو التناقض. وواضح أن القرآن لا يحتوي اختلافاً بهذا المعنى. ولكن الاختلاف في الحقيقة أوسع من التناقض. إنه يمكن أن يمتَّد إلى جميع المستويات بلا استثناء. وهنا يتبدَّى إعجاز القرآن على ذات المستوى الذي يتبدَّى به الإعجاز البلاغي بلا اختلاف.

وجه جديد من وجه إعجاز القرآن:

إن القرآن العظيم في المقام الأول كتاب تربية وتوجيه، وهو الذي أنشأ هذه الأمة التي وصفها خالقها هذا الوصف: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 100].

وهو ـ من هذه الوجهة ـ يتناول كل ميادين التربية الرئيسية في حياة "الإنسان" على مستوى واحد من توجيه الاهتمام، وعلى مستوى واحد من الإتقان والإحكام .. بلا اختلاف!.

ففي تربية الروح، وفي تربية العقل، وفي تربية الجسد .. وفي التربية السياسية والاجتماعية والأخلاق .. تجد ذات الدرجة من الإحكام، كما تجد وحدة التوجيه نحو إنشاء "الإنسان الصالح" على نَسَق لا مثيل له في منهج البشر التي تُعنى بجانب وتهمل جانباً آخر، وتركِّز على جانب على حساب جانب آخر.

والقرآن ينشيء مجتمعاً متوازناً من أفراد متوازنين، بلا اختلاف في التوجيه بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، لا مثيل له في كل ما يصنع البشر من نظم ومناهج، تبرز كيان الفرد لتُفتِّت تماسك المجتمع، أو تبرز كيان المجتمع لتسحق كيان الفرد.

والقرآن ينشيء فرداً وجماعة توازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وبين الدنيا والآخرة بلا اختلاف! على نسق لا مثيل له في كل الحضارات التي تبرز عالم الجسد لتطمس عالم الروح، أو تبرز عالم الروح لتحتقر الجسد وتستقذره وتُذله.

وهكذا .. في أيِّ مجال وعلى أي مستوى تدبَّرت هذا القرآن وجدت أنه يحوي توجيهاً موحَّداً .. بلا اختلاف! وعلى درجة معجزة في كلِّ جانب، ثم على درجة أشد إعجازاً في اجتماع كل الجوانب .. وبلا اختلاف فيما بين توجيه لجانب وتوجيه لجانب آخر ..

وهذا الكتاب ما يملك أحد أن يتدبره دون أن يرى لوناً من الإعجاز فيه .. {ولو كان من عند غير الله لوجدوا في اختلافاً كثيراً} " ([9]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير