الآية الرابعة والأخيرة نزولاً في الدعوة إلى التدبُّر:
ثم أنزل الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم في معرض الحديث عن المنافقين أيضاً قوله تعالى في سورة (محمد): {أفلا يَتَدَبَّرون القُرآن أم على قلوبٍ أقفالها [24]}.
فارتقى البيان بالمنافقين المعرضين عن تدبُّر القرآن من دعوتهم إلى التدبُّر، إلى توبيخهم على ترك التدبر، وتأنيبهم بأن قلوبهم مقفلة، فهي لا تسمح بدخول الهداية إليها.
عطاء القرآن المستمر:
والقرآن الكريم عطاؤه مستمر لا ينفذ، وبيانه متجدِّد لا ينقطع، ومعانيه كثيرة لا تنْضب، وقد اجتهد الكثير من العلماء في الدعوة والتذكير بضرورة تدبُّر هذا الكتاب المبين، وأكدوا لزوم ذلك وأهميته.
وقام كثير من المفسرين بهذه المهمة خير قيام، وما تفسيره إلا ثمرة للتأمُّل والتدبر، وقد اختلفت مناهج المفسرين في تفسيره، فمنهم من غلبت عليه النزعة الفكرية الجدليَّة، فتوسَّع توسُّعاً كبيراً في شرح الآيات المُتَّصلة بهذه المعاني، وغلبت على تفسيره هذه الظاهرة، ومنهم من غلبت عليه النَّزعة اللغوية والبلاغية، فتوسَّع توسُّعاً كبيراً في هذه النواحي، ومنهم من غلبت عليه النَّزعة الفقهية، فتوسَّع فيها، ومنهم من توسَّع في القصص والأخبار، ومن توسع في الأخلاق والمواعظ، ونحو ذلك. كذلك كان من المفسِّرين من أطال حتى أملّ، ومنهم من اختصر حتى أخلَّ، ومنهم من توسَّط بين هذا وذاك.
الدعوة المتجدِّدة إلى كتابة تفسير ملائم لأهل العصر:
وهذه الجهود الموفَّقة في تفسير القرآن يسَّرت السبل للانتفاع به، والاستضاءة بنوره، غير أنَّ كلَّ زمان له مُقْتضيات، وكلَّ بيئة لها حاجات. يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف ـ (ت: 1375) رحمه الله تعالى ـ في مقال له بعنوان: "واجبنا في خدمة القرآن": "فأوَّل واجب علينا في خدمة القرآن وضع تفسير سهل العبارة، حسن الأسلوب، يلائم أساليب عصرنا وثقافتنا، يستبين منه المسلم معاني المفردات والمراد من الآيات، ويسترشد إلى ما في الآية من هُدىً ورحمة، ومن دروس وعبر، ليس فيه طول مُمل، ولا إيجاز مُخل، ولا نحو ولا إعراب، ولا إسرائيليات ولا اختلافات، وجملة وصف هذا التفسير: أنه تفسير يُبيِّن هداية القرآن، ويجعل القارئ والسامع متَّصلاً بمعانيه والمراد منه، لا مجرَّد مُردِّد للصوت بألفاظه، وهذا التفسير موجود، ولكنه مفرَّق ومبثوث في التفاسير، والواجب أن نستخلصه منها، ونُحسن الصياغة والترتيب. ولقد سُئل بعض العلماء: ما خير التفاسير؟ فقال: خير التفاسير مبثوث في التفاسير. وكثير ما سُئل الواحد منا: عن خير تفسير تُفهم منه الآيات بسهولة وبدون احتمال عناء في الإعراب، والخلافيَّات والإسرائيليات، فلا نستطيع الجواب عن هذا السؤال.
إنَّ التفاسير التي بين أيدينا قيَّمة ونافعة، ولكن لا ينتفع بها إلا خاصَّة الخاصَّة، ولهذا تعذَّر على أكثريَّة المتعلِّمين من المسلمين أن يتَّصلوا بمعاني القرآن الكريم، وأن يتعرفوا على ما اشتمل عليه. والمقصود الأول من القرآن: هُداه ونوره وما جاء به " ([10]).
وقد اجتهد الكثير من العلماء والهيئات والمؤسَّسات العلمية في كتابه تفاسير تحقِّق هذا الهدف المنشود، وأبلى الكثير منهم في هذا الميدان أحسن البلاء، ووضعوا عدداً كثيراً من التفاسير النافعة الجامعة، وكلٌّ منهم ولي في تفسيره الوجهة التي رأى فيها خدمة لكتاب الله تعالى، وتقريبه للمسلمين.
توجُّهي لكتابة هذا التفسير:
ومن ثمَّ أردت أن أدلي بدلوي المتواضع في هذا المضمار، مستشعراً خطورة الدخول في هذا الميدان، وذلك خشية أن تقام علينا الحجَّة إن لم نقم بواجبنا نحو القرآن، ولشدَّة حاجتي من جهة ثانية لتدبُّر كتاب الله تعالى، وللأمل في أن أكون من أهل الله تعالى وخاصَّته، وأن ألحق بهذه القافلة المباركة التي خدمت كتاب الله تعالى عبر الأجيال، وأتشبَّه بهم، وأنضم إلى ركبهم، سائلاً المولى سبحانه الإخلاص والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق.
وهذا العمل الذي شرفني الله تعالى به، كان أمنيةً قديمة في نفسي، ورغبة حققها الله لي. وأكرمني بأن ألحقني في جملة خدمة كتابه الكريم.
¥