تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثامناً: استوضح من معنى كلِّ آية ما يليق بها؛ إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عزَّ وجل، وذكر أفعاله، وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال المكذبين لهم، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من أراد خبر الأوَّلين والآخرين، فليثوِّر القرآن، فإنَّ فيه خبر الأولين والآخرين) ([17]) أي: ليُنقِّر عنه، ويفكِّر في معانيه وتفسيره.

تاسعاً: اجتنب موانع التدبُّر والفهم لمعاني القرآن، وهذه الموانع كثيرة، منها:

1 - أن يكون الهمُّ مُنصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مَخَارجها، فيكون تأمُّلهم مَقصُوراً على مَخَارج الحروف، ويُثبِّطهم عن المهم، وهو الوصول إلى فهم المعاني. فمثل هؤلاء مثل من اشتغل بالوسائل، وأعرض عن المقاصد.

2 - أن يكون مُقلِّداً لمذهبٍ سمعه بالتَّقليد وجَمَد عليه، ويثبت في نفسه التعصُّب له بمجرَّد الاتِّباع للمسموع من غير وصولٍ إليه ببصيرةٍ نيِّرةٍ، وبُرهان ساطع، فهذا شخصٌ قيَّدَهُ معتقده من أن يجاوزه، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن بَدَا له معنى من المعاني التي تُباين مسموعه حَمَلَ عليه شيطان التقليد حَملةً منكرة، وقال: كيف هذا يخطر ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟! فيرى أنَّ ذلك الذي فُتح له فهمٌ في ذلك المعنى الذي بَدَا له غُرور الشيطان، ويعدُّه من تلبيساته، فَيَتَباعدُ عنه، ويتحرَّز عن الوقوع في مثله.

3 - أن يكون مُصِرّاً على ذنب، أو متَّصفاً بِكِبرٍ وعُجب ([18])، أو مُبتلىً في الجملة بهَوَىً في الدنيا يُطاع بما تميل إليه نفسه، فإنَّ ذلك سبب ظُلمة القلب وصدأه.

وكُلَّما كانت الشَّهوات أشدَّ تراكماً، وأكْثَرَ تَوَارداً، كانت معاني الكلام أشدَّ احتجاباً، وأكثر استِتاراً. وكلَّما خَفَّت عن القلب أثقالُ الدنيا، قَرُب تجلِّي المعنى فيه، فالقلب مثل المرآة المجلوَّة، والشَّهواتُ عليه مثل الصَّدأ على المرآة، ومعاني القرآن مثلُ الصُّورة التي تتراءى في المرآة. فما دام صدأ الشَّهوات عليها لا تتجلَّى الصُّور على حقيقتها.

وقد شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكُّر، فقال تعالى: {تبصرة وذكرى لكلٍّ عبد منيب} [ق: 8]، وقال تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} [غافر: 13]، وقال تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9]. والذي آثر غُرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب، فلذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب، ولا يُفتح له في تدبُّرها باب.

4 - أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، فاعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن، إلا ما تناوله النقل عن بعض السَّلف. وأنَّ ما وراء ذلك تفسيرٌ بالرأي، وأنَّ من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار. فلا طريق لفهم القرآن وتدبُّره إلا بما نُقل عن هؤلاء الأئمة، فهذا أيضاً من الحُجُبِ المانعة عن فهم القلب للمعاني ([19]).

عاشراً: قدِّر نفسك أنك المقصود بكلِّ خطاب جاء في القرآن، فإن سمعت أمراً أو نهياً قدَّر أنك المنهيُّ والمأمور، وتبرأ من حولك وقوتك، ولا تلتفت إلى نفسك بعين الرِّضا والتزكية، فإذا تلوت آيات الوعد والمدح للصالحين، فلا تشهد نفسك عند ذلك، بل اشهد الموقنين والصِّديقين. وإذا تلوت آيات المقت وذم العصاة والمقصّرين شهدت نفسك هناك، وقدَّرت أنك المخاطب خوفاً وإشفاقاً.

حادي عشر: ترقَّ في تلاوة كلام الله بأن تقدِّر أنك تقرؤه على الله عز وجل واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليك، ومستمع منك، ويكون حالك: السؤال والتملُّق والتضرُّع والابتهال. ثم تترقَّى إلى درجة ثانية، وهي أن تشهد بقلبك، كأن الله عز وجل يُخاطبك بألفاظه، ويناجيك بإنعامه وإحسانه، فمقامك: الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. ثم تترقى إلى درجة ثالثة، وهي أن ترى في الكلام أوصاف المتكلِّم، فتكون مقصور الهم على المتكلِّم موقوف الفكر عليه كأنك تشاهده ([20]). "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير