المرحلة الثانية: إذا ثبت انفصال الرب عن مخلوقاته، فإما أن يكون فوقهم أو تحتهم، أما التحتية فمستحيلة لأنها صفة ذم ونقص وهي مأوى القاذورات، ويتنزه الله عن ذلك فثبتت له الفوقية ولذلك لو لم يرد نص شرعي ولو لم يأت رسول للبشر يخبرهم بأن الله جل وعلا فوقهم لجزم العقل بعلو الله وفوقيته على عباده، ولذلك من يقول خلاف هذا فهو ضال بلا شك.
وقد وجدت شبهتان في هذا الدليل لعلماء الكلام:
الشبهة الأولي: تولاها الجهمية أن الله في كل مكان أي بذاته (لا بعلمه فهذا موضع اتفاق) أي أن الله بذاته في كل مكان في البيوت وفي المساجد وفي الأسواق وفي المزابل وفي الحمامات - تعالى الله عما يقولون – ولذلك كان يقول غلاة الجهيمة من الصوفية:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
\\\
وما الله إلا راهب في كنيسة
فالكلب والخنزير والراهب وكل شيء إله لأن الله في كل مكان – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – فكفر هؤلاء أشنع من كفر اليهود والنصارى لأن اليهود قصروا الحلول في عزير، وأما النصارى فقصروا الحلول في عيسى وأمه، وأما هؤلاء فقالوا إنه حل في كل نقيصة وقذر.
الشبهة الثانية: بعض علماء الكلام لا يجوز أن تقول أين الله؟ يقول: لأن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال لا أمام ولا وراء، لا داخل العالم ولا خارج العالم، نقول له: يا مسكين أنت بهذا لم تثبت الحي القيوم بل جعلته موهوماً معدوماً،ولذلك لما تناظر أبو بكر ابن فورك في مجلس محمود بن سُبُكْتَكِين وهو من الأمراء الصالحين، تناظر هذا المؤول أي بن فورك مع بعض أهل السنة فقال: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، فقال هذا السني للأمير: ايها الأمير اطلب إلهاً غير إلهك، فهؤلاء قد ضيعوا إلهك.
إذن فقولهم بفضي إلى أن نجعل الله عدماً، فجعلوا العلي الأعلى الذي كرسيه أعظم من السموات والأرض جعلوه معدوماً صرفاً وموهوماً محضاً، فانتبهوا لهذا!!!.
كلا الشبهتين باطلتان.
ولذلك عندما جلس أبو المعالي أمام الحرمين – غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه – يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان دعنا من هذه الأمور وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب إلا وطلب المعونة ممن فوقه فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا؟ فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني، فرجع إمام الحرمين عن قوله.
5 - وأما الفطرة المستقيمة:
وتقدم معنا أن الأدلة على الفطرة قسمان:
أ) سلفي شرعي، والسلفي الشرعي قسمان
1) نصوص الكتاب والسنة.
2) الفطرة المستقيمة.
ب) وخلفي بدعي وهو قسمان:
1) عقل متكلف فيه متعمق.
2) كشف خيال.
فالفطرة السوية تقرر علو رب البرية، ووجه ذلك: أنه لا يلجأ أحد إلى الله إلا واتجه إلى فوق، فهذا مركوز في أذهان وقلوب نساء البادية فضلاً عن غيرهن، فهذه فطرة ولذلك عندما ندعو نمد أيدينا إلى فوق أو إلى الوراء أو إلى أسفل إلى العلو إلى فوق، وعندما نسجد نقول سبح
([1]) هذا مد كلمي مثقل، والتعبير صحيح عنه أن يقال مد فرق، ويمد ست حركات باتفاق القراء.
([2]) قيل بمعنى الوفاة الصغرى، أي منيمك وقد ألقى الله على نبيه عيسى النوم عندما أراد اليهود قتله ورفعه وهو نائم لئلا يفزع والنوم في حالة الحرب والخوف هذا سكينة من الله، (إذ يغشيكم النعاس أمنة .. ) فاعلم أنه متى ما نام المجاهد فقد نزلت عليه سكينة، وقيل: بمعنى الوفاة الكبرى (الموت) وعليه يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقديم: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك أي سأرفعك ثم سأنزلك لتتوفى في الأرض، ورفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء إلى الله جل وعلا ثابت في القرآن ومتواتر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيخرج في آخر الزمان وهو من أشراط الساعة الكبرى، وبلغت الأحاديث المتواترة في نزوله (70) حديثاً، وهذا الأمر يخالف فيه علماء الأزهر وينفوه فانتبهوا لهذا!! واشتروا كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) للشيخ محمد أنور شاه الكشميري، يقارب 400 صفحة جمع فيه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
¥