ومنها: أن كثيراً من المثقفين الصالحين – فضلاً عن غير الصالحين– عندهم تشويش وتردّد وعدم تسليم بمرجعية العلماء الشرعيين وقيادتهم، فالحركات الإسلامية اليوم –وأتباعها بالملايين– منتسبوها كثير، منهم مثقفون صالحون -ولا نزكيهم على الله- ولكن لا يقودون هذه الحركات، شأنهم كشأن سائر الأعضاء غالباً .. فصوت العالِم كصوت أي عضو مثقف في أجهزة تلك الحركات المختلفة، سواء في القضايا العامة أم في القضايا الشرعية، وليس للعلماء مجالسهم الشرعية المرجعية الخاصة الفعّالة، باستثناء الروافض الذين لعلمائهم مجالسهم المرجعية النافذة، ولكن انحرافهم معلوم في جوانب أخرى.
وقد كانت نتيجة ذلك تهميش العلماء مرة أخرى، فبجانب تهميش الحكام للعلماء همّشتهم الحركات، فلم تجعلهم كقطاع علمي شرعي قيادي متميز.
وهذه سلبية كبيرة يجب على الحركات -وعلى العلماء أنفسهم- تلافيها.
فهذه الحركات التي تقدم نفسها اليوم بأنها تمثل دوراً طليعاً في الأمة، أولى بها أن تنتبه لذلك، لا سيما بعد مرور عقود كثيرة على هذه الحركات تقارب القرن أو تجاوزه، وهي لم تحقق هدفها بعودة الخلافة وتمكين الدين، بل صار الغالب عليها التآكل والتساهل، وضعف الأدوار والتفاؤل، رغم ضخامة الأحجام والإمكانات، ووصول بعضها إلى الحكم.
هذا الضعف الذي يعود –والله أعلم– إلى غلبة الطابع السياسي الجزئي الحزبي الضيق القاصر، على الطابع العلمي الشرعي الكلي الرحْب الرشيد الجامع للأمة؛ فقد ورثت تلك الحركات عن مؤسسيها رحمهم الله الجموع، وواصلت التجمع والتوسع، ولكنها لم تنجح في التوظيف والتصريف، كالقاصر الذي ورث الكنوز والأموال، ثم لم يتمكن من تصريفها في قضاء حاجاته، فيظهر في مظهر الفقير أحياناً وليس بفقير، ينقصه في الحقيقة الولي كامل الأهلية، ولا يعني هذا أن ننجس هذه الحركات جهودها في الإحياء الإسلامي في هذا العصر –معاذ الله– فهي جهود كبيرة مشهورة مشكورة.
.............................. .............................
تقديم العلماء لا يعني تقديس أشخاصهم:
إن تقديم العلماء إنما هو بسبب ما يحملونه من العلم الذي يحوي النصوص المعصومة، وهو علم الكتاب والسنة، فالتقديم في الحقيقة هو لذلك العلم الشريف الذي قال الله عنه لنبيه: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)) [المزمل:5]، وهو الذكر، والذين يقوون على حمله تشرفوا بشرف ذلك العلم أو الذكر، وأطلق عليهم أهل الذكر، فهم مرجعية الناس في معرفة ذلك الذكر؛ لكي يعمل الناس به ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43].
وكل من تحمّل المشاق وتعلم الذكر؛ انضم إلى قائمة أهل الذكر، إذ ليست القائمة محتكرة على صنف من الناس، بل كل شخص عنده استعداد يمكنه أن يتعلّم ويصبح عالماً، وهذا يدل على أنه لا توجد قداسة ذاتية للعلماء.
إن العلماء هم مرجعية الناس في الأمور الدينية التي تحكم حياتهم، كما أن المتمكنين من العلوم والفنون الأخرى هم مرجعية الناس في تلك العلوم والفنون، والناس لا يعترضون على مرجعية العلماء بالطب في مجال الطب، ولا على مرجعية العلماء بالهندسة في مجال الهندسة، ولا على مرجعية العلماء بالفلك في مجال الفلك وهكذا، فكذلك لا يجوز الاعتراض على مرجعية علماء الشرع والدين في المجالات التي نظمها الشرع والدين في حياة الناس.
وإذا كانت العلوم متفاوتة في أهميتها وفي مكانة كل علم منها، فكذلك تتفاوت أهمية ومكانة حاملي العلوم.
يدل على أنهم كالجسد رأس يقوم الجسد ويربط بين أجهزته وأعضائه، وهذا الرأس استحق تلك المكانة بحكم التخصص والمقدرة، وليس في ذلك إذلال ولا تحقير للأجهزة والأعضاء الأخرى، فكذلك المجتمع المسلم كيان وجسد له رأسه المتخصص وهم العلماء بالشرع، وإذا اتخذ المسلمون في مجتمعاتهم رؤوساً أخرى غير المتخصصين في الشرع، أو غير الذين لا يرجعون على الأقل إلى المتخصصين؛ فقد اتخذوا رؤوساً جهالاً -كما في الحديث المتفق عليه المذكور من قبل- {فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا}، وذلك مثل ما لو اتخذ الناس قائد طائرة لم يدرس الطيران، أو طبيباً جرّاحاً لم يدرس الطب والجراحة؛ فيكون هذا الاتخاذ سبباً في جلب الإضرار والهلاك.
.............................. .............................
¥