تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأسباب التي ذهبت بالعلاقة السلمية بين العلماء والمثقفين:

كان العلماء محل إجلال واحترام سائر فئات المجتمع المسلم، بمن في ذلك المثقفون؛ لأن التربية الإسلامية صنعت فيهم ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: {ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه}، رواه أحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت، وذكر الألباني في (صحيح الجامع) أنه حسن.

فلما دخل الاستعمار بلاد المسلمين، ودخلت أفكاره في البلاد التي لم يدخلها من بلاد المسلمين؛ أخذ الفكر الاستعماري -الذي ستحق بعد رحيل المستعمر- يحارب العلماء ويقلل من شأنهم، ويعزلهم عن الأعمال القيادية في المجتمع، ويجهز لهذه الأعمال أشخاصاً علمهم -بلغته وثقافته- المناهضة للدين وللعلماء، ويعطيهم الصدارة، ويعمل على تجفيف التعليم الشرعي، ويضايق العلماء في مرتباتهم وأرزاقهم، ويسخر منهم في وسائل الإعلام المختلفة التي يشرف عليها، ويجعلهم مع طلابهم موضع تندر وفكاهة.

وأذكر أنني مررت بالقاهرة أواخر القرن الجاري الماضي، فلفت نظري –أنني منذ خرجت من المطار إلى أن انتهيت إلى المكان الذي نزلت منه– انتشار صُوَر شيخ أزهري بعمامته ولحيته، وبجانبه علبة أو إبريق الشاي، ومكتوب تحت ذلك (شاي الشيخ الشِّرِّيب) أي: أن العالم الشرعي صارت صورته دعاية للشاي!! هل كان يمكن أن تستخدم صورةُ ذي وجاهة أو وزير مثلاً، ويوصف بذلك الوصف الذي وصف به الشيخ كمادة للدعاية المُسفة؟! كل ذلك يجري إضافة على السخرية من العلم الشرعي والدين نفسه ونشر الشبهات حوله في كل اتجاه، بأساليب متنوعة مما غير نظرة أبناء المسلمين للعلماء وللعلم الشرعي، فبعد أن كان يندب له أذكى الطلاب، ويعامل المتخرج منه أحسن المعاملة، ويرتقي في المجتمع حتى يصير مرجعاً للناس، أصبح لا يلتحق بالمنشآت التعليمية الشرعية -القليلة المتبقية التي شوهت- إلا الطلاب ذو الدرجات المنخفضة، أو المصابون بعاهات إلا في بعض البلاد التي لم تتعمق فيها ثقافة المستعمر، وقد عمت هذه السياسة معظم بلاد المسلمين، ولولا القوة الذاتية للإسلام وحفظ الله له لكان قد قُضى عليه وعلى علمائه تماماً، لكن الله سبحانه قيض علماء ودعاة وحلقات مسجديه ومؤسسات أهلية، وكانت نتيجة ذلك تخرُّج علماء أقوياء لازالوا يشكلون مرجعية، ويواصلون مسيرة العلم الشرعي والدعوة إلى الله قدر الإمكان.

أمام التشويه المذكور ضعفت مكانة العلماء -كما ذكرنا- وكادت تضيع، وجاء الفكر الديمقراطي المذوق إضافة إلى ضعف الوعي الإسلامي ليعمق قضية المساواة بين غير المتساوين، جاء ذلك الفكر ليسوي بين العالم القوي المتمكن والجاهل المغرور المتعلق، بل يسوي بين المسلم وغير المسلم، وأصبح يُنظر إلى تلك التسوية أنها مكسب عظيم للإسلام، وأنه صار للعالم فرصة أن يتكلم، ويعرض ما لديه بدلاً من السخرية منه، أو رميه في أحد السجون، وأنه يمكنه أن ينافس الآخرين وينزل بدعايته وشهادته وصوره مثلهم إلى الشوارع وإلى المكاتب، ثم قد يسمح له ولقليل من أمثاله، بعد جهد جهيد وبذْلٍ ليس وراءه مزيد، يسمح لهم بفرص محددة محسوبة للوصول إلى بعض الكراسي أو المواقع؛ لكي يطرحوا بعض ما لديهم مما يسمح به الفكر الديمقراطي وبضوابطه، لكي يطرحوا بعض ما يحملونه من النصوص الشرعية المعصومة بجوار ما يطرحه الآخرون مما قد يتناقض مع ذلك، ويكون الطرحان على قدم المساواة.

وهنا تأتي المفارقة، ففي حين يفرح الفرحون بما يضنونه الفرصة الذهبية لعرض بعض الحق كيفما كان العرض، يصاب بالغم ذوو النظر الآخر؛ إذ يجدون الظلم بلغ مداه في التسوية بين العالم وغير العالم، والتسوية بين طرح نصوص الوحي وطرح ما قد يعارضها من كلام البشر جنباً إلى جنب للاختيار، وقد يومض في ذهن بعض المغتمين مثل السياق القرني الذي وردت فيه الآيات: ((قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ)) [الشعراء:96] * ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الشعراء:97] * ((إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:98]، وتُلح عليهم ضرورة البحث والسؤال عن مدى التقارب أو التباعد بين التسويتين والصورتين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير