الثاني: لو صحَّ الدليل المذكور لزم منه أن يكون الرب تعالى غير مختار في فعله؛لأنَّ التقسيم المذكور والترديد جارٍ فيه بعينه بأن يقال فعله تعالى إمَّا أن يكون لازماً أو جائزاً،فإن كان لازماً كان ضروريِّاً،وإن كان جائزاً فإن احتاج إلى مرجِّح عاد التقسيم،وإلا فهو اتفاقيِّ، ويكفي في بطلان الدليل المذكور أن يستلزم كون الربّ غير مختار.
الثالث: أنَّ الدليل المذكور لو صحَّ لزم بطلان الحُسْن والقُبْح الشرعيّين؛لأنَّ فعل العبد ضروريّ أو اتفاقيّ،وما كان كذلك فإنَّ الشرع لا يحسِّنه ولا يقبِّحه؛ لأنَّه لا يرد بالتكليف به فضلاً عن أن يجعله متعلق الحُسْن والقُبْح.
الرابع: أنَّ هذا الدليل لو صحَّ لزم بطلان الشرائع والتكاليف جملةً؛ لأنَّ التكليف إنَّما يكون بالأفعال الاختياريِّة؛ إذ يستحيل أن يكلَّف المرتعش بحركة يده، وأن يكلَّف المحموم بتسخين جلده، وإذا كانت الأفعال اضطراريَّة غير اختياريَّة لم يُتصوَّر تعلُّق التكليف والأمر والنَّهى بها.
2 – مسلك القاضي أبي بكر الباقلاني وهو:
أنَّ الحُسْن والقُبْح لو كانا صفتين ذاتيتين للفعل لما اختلفا باختلاف الأحوال والمتعلقات والأزمان، ولاستحال ورود النَّسخ على الفعل؛ لأنَّ ما ثبت للذَّات فهو باقٍ ببقائها لا يزول، وهي باقية، ومعلوم أنَّ الكذب يكون حسناً إذا تضمَّن عصمة دم نبيٍ أو مسلمٍ، ولو كان قبحه ذاتياً له لكان قبيحاً أين وجد، وكذلك ما نُسخ من الشريعة لو كان حسناً لذاته لم يستحل قبيحاً، ولو كان قبحه لذاته لم يستحل حسناً بالنَّسخ.
وأجيب عن هذا الدليل من أوجه:
الوجه الأول: أنَّ كون الفعل حسناً أو قبيحاً لذاته،أو لصفةٍ لم يُعْن به أنَّ ذلك يقوم بحقيقة لا ينفك عنها بحال مثل كونه عرَضَاً، وكونه مفتقراً إلى محلٍّ يقوم به، وكون الحركة حركةً والسواد لوناً، وإنَّما يراد بكونه حسناً أو قبيحاً لذاته، أو لصفته أنَّه في نفسه منشأ للمصلحة والمفسدة،وترتيبهما عليه كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها، وهذا كترتيب الريّ على الشرب، والشبع على الأكل، وترتب منافع الأغذية والأدوية ومضارها عليها، فحسن الفعل أو قبحه هو من جنس كون الدواء الفلاني حسناً نافعاً، أو قبيحاً ضارَّاً، وكذلك الغذاء واللباس والمسكن والجماع والاستفراغ والنوم والرياضة وغيرها.
الثاني: أنَّه يجوز اقتضاء الذَّات الواحدة لأمرين متنافيين بحسب شرطين متنافيين فيقتضى التبريد مثلاً في محلِّ معيَّن بشرطٍ معيَّن، والتَّسخين في محلٍّ آخر بشرطٍ آخر، والجسم في حيِّزه يقتضي السكون فإذا خرج عن حيِّزه اقتضى الحركة.
الثالث: أنَّ قولكم: يحسن الكذب إذا تضمَّن عصمة نبىٍّ أو مسلمٍ لا يسلَّم، بل لا يكون الكذب إلَّا قبيحاً، وأمَّا الذي يحسن فهو التعريض والتورية كما وردت به السنَّة النبويِّة، ثم لو سُلِّم ذلك فإنَّ تخلُّف القُبْح عن الكذب لفوات شرطٍ،أو قيام مانعٍ يقتضي مصلحةً راجعةً على الصدق لا تخرجه عن كونه قبيحاً لذاته.
3 – مسلك أبي الحسن الآمدي وهو:
أنَّه لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل، وإلَّا كان من علم حقيقة الفعل عالماً بحُسْنه وقُبْحه، وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحُسْنه وقُبْحه على النَّظر كحُسْن الصدق الضّارّ وقُبْح الكذب النَّافع، وإن كان مفهومه زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجوديِّة؛ لأنَّ نقيضه وهو لا حُسْن ولا قُبْح صفة للعدم المحض فكان عدمياً، ويلزم من ذلك كون الحُسْن والقُبْح وجودياً،وهو قائم بالفعل لكونه صفةً له، ويلزم من ذلك قيام العَرَض بالعَرَض وهو محال.
وأجيب عن هذا الدليل من أوجه:
الوجه الأول: أنَّه منقوضٌ بما لا يحصى من المعاني التي توصف بالمعاني كما يقال علمٌ ضروريّ، وعلمٌ كسبيّ، وإرادةٌ جازمةٌ، وحركةٌ سريعةٌ، وحركةٌ بطيئةٌ، وحركةٌ مستديرةٌ، وحركةٌ مستقيمةٌ، ومزاجٌ معتدلٌ، ومزاجٌ منحرفٌ.
¥