الثاني: أنَّ قوله: يلزم منه قيام العَرَض بالعَرَض غير صحيح بل العَرَض يوصف بالعَرَض، ويقوم به تبعاً لقيامه بالجوهر الذي هو المحلّ فيكون العرضان جميعاً قائمين بالمحلّ،وأحدهما تابعٌ للآخر،وكلاهما تبعٌ للمحلّ فما قام العَرَض بالعَرَض، وإنَّما قام العَرَضان جميعاً بالجوهر، فالحركة والسرعة قائمتان بالمتحرِّك، والصوت وشجاه وغلظه ودقته وحسنه وقبحه قائمةٌ بالحامل له، والمُحال إنَّما هو قيام العَرَض بالعَرَض من غير أن يكون لهما حامل، فأمَّا إذا كان لهما حامل وأحدهما صفة للآخر وكلاهما قام بالمحلّ الحامل فليس بمُحَال.
الثالث: أنَّ حُسْن الفعل وقُبْحه شرعاً أمرٌ زائدٌ عليه؛ لأنَّ المفهوم منه زائد على المفهوم من نفس الفعل، وهما وجوديَّان لا عدميَّان؛ لأن نقيضهما يحمل على العدم فهو عدمي، فهما إذا وجوديَّان؛ لأن كون أحد النقيضين عدمياً يستلزم كون نقيضه وجودياً فلو صحَّ الدليل المذكور لزم أن لا يوصف بالحُسْن والقُبْح شرعاً، ولا خلاص عن هذا إلَّا بالتزام كون الحُسْن والقُبْح الشرعيّين عدميّين، ولا سبيل إليه؛ لأن الثواب والعقاب والمدح والذم مرتَّب عليهما ترتب الآثر على مؤثِّره المقتضى على مقتضيه، وما كان كذلك لم يكن عدماً محضاً؛ إذ العدم المحض لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم.
4 – مسلك القرافي وهو:
" أنَّ العالم حادث؛ فهو إمَّا أن يكون فيه مصالح أو لا يكون، فإن كان الأول فقد أخَّر الله تعالى فعل المصالح دهوراً لا نهاية لها، فلا يقال: إنَّ الله تعالى لا يهمل المصالح، وحينئذٍ لا يجزم العقل بثبوت الأحكام قبل الشرائع ولا بمراعاة المصالح، وإن كان العالم ليس فيه مصالح، وقد فعل الله تعالى ما لا مصلحة فيه، فلا يكون العقل جازماً بأنَّ الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة، بل يجوز عليه فعل لا حكمة فيه على رأيهم، وذلك يخرم قاعدة الحكمة بتفسيرهم، فهذا برهانٌ قاطعٌ على بطلان الحُسْن والقُبْح العقليين ".
ويجاب عن هذا الدليل: بأنَّ هذا وارد في حقِّ المعتزلة كما سيأتي؛ لأنهم يوجبون فعل الأصلح على الله تعالى،أمَّا أهل السنَّة فيثبتون الحُسْن والقُبْح العقليّين دون الثواب والعقاب،ووجوب فعل الصَّلاح والأصْلَح وغيرها مما يوجبه المعتزلة، وعليه فقول القرافي _ رحمه الله _: (أقول في إبطال الحُسْن والقُبْح: رعاية المصالح غير واجبة على الله تعالى عقلاً؛ فالحُسْن والقُبْح العقليَّان باطلان) _ إنَّما يصحُّ في نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يربطون بين المسألتين.
ثانيا: أدلة مثبتي الحُسْن والقُبْح العقليين:
وهم أهل السنَّة والماتريديَّة والمعتزلة: واستدلوا بأدلة نقليَّة وعقليَّة:
أ – الأدلة النقليَّة:
1 – قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
وجه الاستدلال: أنَّ الله أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنَّه لا يأمر بالفحشاء فدلَّ ذلك على أنَّه منزهٌ عنه فلو كان جائزاً عليه لم يتنزَّه عنه فعُلِمَ أنَّه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء، وذلك لا يكون إلاَّ إذا كان الفعل في نفسه سيئاً وقبيحاً.
2 – قوله تعالى: {ولا تقربوا الزِّنا إنه كان فاحشةً وساءَ سبيلاً}.
وجه الاستدلال: أن الله علَّل النَّهي عنه بما اشتمل عليه من أنَّه فاحشة وأنَّه ساءَ سبيلاً، فلو كان إنَّما صار فاحشةً وساء سبيلاً بالنَّهي لما صحَّ ذلك؛ لأنَّ العلَّة تسبق المعلول لا تتبعه.
3 – قوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يمتِّعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمَّى ويؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضله}
وجه الاستدلال: أنَّ الله أمر الناس أن يتوبوا ويستغفروا ممَّا فعلوه فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة فعلم أنَّه كان من السيئات القبيحة لكنَّ الله لا يعاقب إلاَّ بعد إقامة الحجة.
¥