4 - أخبر الله تعالى عن قُبْح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول كقوله لموسى: {اذهب إلى فرعون إنَّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكَّى وأهديك إلى ربِّك فتخشى} وقال تعالى: {إنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبِّح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنَّه كان من المفسدين} فهذا خبرٌ عن حاله قبل أن يولد موسى _ عليه السلام _ وحين كان صغيراً قبل أن يأتيه برسالة أنَّه كان طاغياً مفسداً، وقال تعالى: {ولقد مننَّا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمِّك ما يوحى أن اقذفيه في التَّابوت فاقذفيه في اليمِّ فليلقه اليمُّ بالساحل يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له وألقيت عليك محبةً منِّي ولتُصنع على عيني}، والعدو فرعون فهو إذ ذاك عدوٌ لله ولم يكن جاءته الرسالة بعد.
5 – قوله تعالى: {ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائِث}
وجه الاستدلال: أنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ الحلال كان طيباً قبل حلِّه وأنَّ الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه، ولم يستفد طيب هذا وخُبْث هذا من نفس الحلّ والتحريم؛ لأنَّ هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فلو كان الطيب والخبيث إنَّما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل؛ فإنَّه بمنزلة أن يقال: يحلُّ لهم ما يحلُّ ويحرِّم عليهم ما يحرِّم وهذا باطل؛ فإنه لا فائدة فيه.
6 – أنَّ الله تبارك وتعالى أنكر على من نسب إلى حكمته التسوية بين المختلفين كالتسوية بين الأبرار والفجَّار فقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتَّقين كالفجَّار}، وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} فدلَّ على أنَّ هذا حكمٌ سيءٌ قبيحٌ ينزَّه الله عنه، ولم ينكره سبحانه من جهة أنَّه أخبر بأنَّه لا يكون وإنما أنكره من جهة قُبْحه في نفسه وأنه حكمٌ سيءٌ يتعالى ويتنزَّه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله، ووقوع أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب والحكمة فلا يليق به أن يجعل البرَّ كالفاجر، ولا المحسن كالمسيء، ولا المؤمن كالمفسد في الأرض فدلَّ على أنَّ هذا قبيحٌ في نفسه تعالى الله عن فعله.
ب – الأدلة العقليَّة:
1 – أنَّ من أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحْسُن إلا لتعلق الأمر به، وأنَّ الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصةً الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.
2 – أنَّ نفي الحُسْن والقُبْح العقليين مطلقاً لم يقله أحد من سلف الأمَّة ولا أئمتها، وهذا يؤخذ من كلام الأئمَّة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره، فنفي ذلك من البدع التي حدثت في الإسلام.
3 – أنَّ من قال: إنَّ الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحُسْن والقُبْح فهو بمنزلة قوله ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والاشباع والإرواء، فسلبُ صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار.
4 – قال المعتزلة: إنَّ الحُسْن والقُبْح يستوي في معرفتهما الملحد والموحِّد؛ فالملحدة يعرفون قُبْح الظلم ولا مستند لهم إلا محض العقل فالملحدة لا يعرفون النَّهي والنَّاهي.
5 – وقال المعتزلة أيضاً: لو لم يكن الحكم بالحُسْن والقُبْح إلا بالشرع لحَسُن من الله كلُّ شيء فحَسُن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع.
فهذه جملة من أدلة المثبتين للتحسين والتقبيح العقليين، وهي مشتركة بين أهل السنَّة والماتريديَّة والمعتزلة، ثم افترقوا في إثبات الثواب والعقاب بالعقل فأثبت ذلك المعتزلة كما سبق محتجِّين بما ذكرنا من أدلة
ونفى ذلك أهل السنَّة مستدلين بأدلة منها:
1 – النُّصوص الكثيرة في القرآن التي تدل على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة كقوله تعالى: {وما كنَّا مُعذِّبِيْنَ حتى نبعث رسولاً}، وقوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلَّا يكون للناس حجةٌ بعد الرسل}، وقوله تعالى: {وما كان ربُّك مهلك القرى حتى يبعث في أمِّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} وغير ذلك من الآيات التي تؤكِّد هذا المعنى.
2 - أنَّ الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنَّه لا يكلف نفساً إلا وسعها كقوله: {لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها} وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلِّف نفساً إلَّا وسعها} وقوله: {لا تكلَّف نفسٌ إلا وسعها} وقوله: {لا يكلِّف الله نفساً إلا ما آتاها} فهذه الآيات وأمثالها تدل على أنَّ المكلَّف لا يؤاخذ بما فعله أو تركه ممَّا لم ينه عنه الشرع، أولم يأمر به؛ لأنَّه خارج عن قدرته واستطاعته.
3 – أنَّ مؤاخذة وتعذيب من لم يأت إليه شرع ظلم، والله سبحانه وتعالى نزَّه نفسه عن الظلم في مواضع كثيرة من القرآن كما في قوله تعالى: {ذلك أن لم يكُ ربُّك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون}.
فهذه أدلة أهل السنَّة والجماعة في إثبات التحسين والتقبيح العقليين دون ترتيب الثواب والعقاب عليهما، وهو ظاهر القوة والله أعلم
¥