تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبهذا التفصيل يتبين لنا أن مذهب أهل السنة وسط بين الطرفين، وبيان ذلك كالآتي:

ه- مذهب أهل السنة وسط بين الطرفين ():

ذلك أن المعتزلة الذين أثبتوا التحسين والتقبيح العقليين ارتكبوا عدة محاذير عندما قالوا: إن العقل يحسن ويقبح:

المحذور الأول: أنهم مجدوا العقل وجعلوا ما أدركته عقولهم أصلاً قاطعًا، فالحسن ما حسنته عقولهم والقبيح ما قبحته عقولهم، والشرع عندهم إنما هو كاشف عن حكم العقل.

والمحذور الثاني: أنهم رتبوا على تحسين العقل وتقبيحه أن أوجبوا على الله فعل الأصلح، وهو الأمر بما حسنته عقولهم والنهي عما قبحته.

والمحذور الثالث: أنهم رتبوا على تحسين العقل: المدح والثواب، وعلى تقبيحه: الذم والعقاب، ومعلوم أن المدح والذم والثواب والعقاب مما لا يدرك إلا بالسمع المجرد.

والمحذور الرابع: أنهم شبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، وذلك أنهم قالوا: ما حَسُنَ من المخلوق حَسُنَ من الخالق، وما قَبُحَ من المخلوق قَبُحَ من الخالق، ومن المعلوم أنه سبحانه لكمال حكمته لا يقبح منه شيء أبدًا، ولا يجوز أيضًا تشبيه الله بخلقه، لا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله.

ومن جهة أخرى نجد أن الأشاعرة الذين نفوا التحسين والتقبيح العقليين ارتكبوا عدة محاذير عندما صاروا إلى ذلك:

المحذور الأول: أنهم خالفوا بداهة العقل والفطرة السليمة، ذلك أنهم قالوا باستواء الأفعال حسنها وقبيحها، فلا فرق عندهم بين الظلم والفواحش وبين العدل والإحسان، بل قالوا: إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك وينهي عن التوحيد، ومعلوم أن الشرع موافق للفطرة والعقل، ولا يمكن أن يستقر في العقول والفطر ما يناقض الشرع، فالعقل يدرك حسن عبادة الله وحده وقبح عبادة ما سواه.

والمحذور الثاني: أنهم نفوا عن الله الحكمة والتعليل في أفعاله، إذ قالوا: إن الله يأمر وينهى لا لحكمة، ولا يخلق الله شيئًا لحكمة لكن نفس المشيئة أوجبت وقوع ما وقع، فهم لا يثبتون إلا محض الإرادة، وهذا مما علم بطلانه بأدلة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ومخالف أيضًا للمعقول الصريح ()، فإن الله وصف نفسه بالحكمة في غير موضع، ونزه نفسه عن الفحشاء، فقال:] إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [[الأعراف: 28]، ونزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر، فقال تعالى:] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [[القلم: 35]، وقال:] أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [[ص: 28].

والمحذور الثالث: أنهم جعلوا انتفاء العذاب قبل بعثه الرسل دليلاً على انتفاء التحسين والتقبيح العقليين واستواء الأفعال في أنفسها، ومعلوم أنه لا يلزم من إثبات التحسين والتقبيح العقليين إثبات الثواب والعقاب؛ لأن الثواب والعقاب من الأمور التي لا تثبت إلا بالسمع المجرد.

أما أهل السنة فقد توسطوا بين الطرفين ولم يرتكبوا شيئًا من المحاذير التي وقع فيها الفريقان، فإنهم: أثبتوا ما أثبته الله لنفسه من الحكمة والتعليل ونزهوا الله سبحانه وتعالى عن أن يأمر بالقبائح والنقائص لكمال حكمته وعلمه وعدله، ولذلك لا يمكن أن يجيء الشرع عندهم بما يخالف العقل والفطرة، وإن جاء بما يعجز العقل عن فهمه وإدراكه، ولذلك أيضًا أثبت أهل السنة تحسين العقل وتقبيحه، لكن لا يترتب عندهم على ذلك مدح ولا ذم، ولا ثواب ولا عقاب؛ لأن ترتيب ذلك مما لا يثبت بالعقل، وإنما يستقل السمع المجرد في إثباته.

و- تنبيهات:

1 - بُني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين مسألة: شكر المنعم، هل هو واجب سمعًا أو عقلاً؟

فمن قال: إن العقل يحسن ويقبح قال: إن شكر المنعم واجب عقلاً، وهؤلاء هم المعتزلة.

ومن نفى كون العقل يحسن ويقبح قال: إن شكر المنعم واجب سمعًا لا عقلاً وهؤلاء هم الأشاعرة.

أما أهل السنة فعندهم أن شكر المنعم واجب بالسمع والعقل والفطرة ().

2 - كثر الخلط بين مذهب أهل السنة ومذهب الأشاعرة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وكذلك في مسألة شكر المنعم، بل جعل البعض المذهبين مذهبًا واحدًا، فقال: إن أهل السنة والأشاعرة متفقون على أن العقل لا يحسن ولا يقبح.

وهذا خلط عظيم ()، سببه: اتفاق الفريقين في بعض الجوانب؛ إذ الكل متفق على إثبات أن الشرع يحسن ويقبح، ويوجب ويحرم، وأن الثواب والعقاب والمدح والذم لا يعرف بالعقل، وإنما يعرف ذلك بالشرع وحده، وفي حقيقة الأمر نجد أن هناك جوانب أخرى في المسألة اختلفوا فيها، فأهل السنة يثبتون للعقل دورًا في التحسين والتقبيح بينما ينكر الأِشاعرة دور العقل تمامًا، وأهل السنة أيضًا يثبتون لله الحكمة والتعليل في أفعاله، بينما ينفي الأِشاعرة ذلك، إلى غير ذلك من الأمور التي سبق بيانها في النقاط السابقة.

وبذلك يتبين تباعد الفريقين وافتراق المذهبين.

3 - يمكن إرجاع الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ إذا فسر الحسن بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له، والقبح بكون الفعل ضارًا للفاعل منافرًا له، أو فسر الحسن بمعنى الكمال، والقبح بمعنى النقص. وذلك بأن يُعطى هذا المعنى حقه وتلتزم لوازمه.

إذ الجميع متفق على أن الحسن والقبح بهذين المعنيين عقليان، بمعنى أن العقل يمكنه معرفة ما يلائم الطبع وما ينافره، وما هو صفة كمال أو نقص، إذ يلزم من الملائمة والمنافرة الكمال والنقص، ولا شك أن المدح والذم مرتب على الحب والبغض المستلزم للكمال والنقص ().

انظر المرفقات:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير