بها قبل نزولها " معالم التنزيل للبغوي 1/ 37 "، ورجحه البيضاوي (ت 685 هـ) " تفسير البيضاوي 1/ 5، وحاشية شيخ زادة (ت 951 هـ) على البيضاوي 1/ 13 ".
وما يظهر لي من الاختلاف الوارد في نزولها أنها حيرت المسلمين وأذهلتهم، فهي لا تخضع للمقاييس المميزة للقرآن المكي عن القرآن المدني، من حيث التاريخ والمكان والمضمون. فسورة الفاتحة واكبت مسار الرسالة المحمدية من البعثة إلى الهجرة، وكذلك القرآن الكريم واكب الدعوة، وتطور المجتمع الإسلامي. كما أن الفاتحة حاملة لمعاني الذكر الحكيم، ومتضمنة لأهدافه ومقاصده، فأصبح من الصعب تحديد تاريخ ومكان نزولها بدقة.
رابعا: عدد آياتها
ذكر القرطبي (ت 671 هـ) إجماع الأمة على أن سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وأن عدد آياتها سبع، محتجا بقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87)،كما أن الحديث النبوي الشريف: (قسمت الصلاة) يؤكد ذلك " تفسير القرطبي 1/ 176 ".
خامسا: مقاصد ومعاني سورة الفاتحة
غريب هو القرآن الكريم، من حيث أتيته بهرك، وكلما أمعنت وتمعنت تفتقت أكمامه، وفاض معينه، وملأ عقلك، وكفى وجدانك، وغمرتك روحانيته.
الكثير من المعاني، والأحكام العقدية والعملية، والتوجيهات، والمقاصد والأهداف، وإلمام شامل بطبائع الخلق، وتلبية لرغبات الجسد، واستجابة لمتطلبات الروح، كل هذا يأتيك في نسق بديع، وتركيب قويم، جلال وجمال، غير ما نألفه في كتابات البشر.
تأتي سورة الفاتحة نموذجا جليا على ما ذهبنا إليه، فقد حوت الحياة في آيات محدودة، وجمل معدودة، لو أدرت التفصيل لوجدتها في كل ما تلاها من سور القرآن الكريم، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة.
ولعل ذلك من أسرار جعل الصلاة لا تتم إلا بقراءة الفاتحة، ليقرأها المصلي سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، متذكرا بها ما بسط في القرآن الكريم، ومتأسيا بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان قرآنا يمشي على الأرض، فهو قد أحال تعاليم السماء إلى واقع عملي، فأقام بذلك الحجة على أن مقصد الدين ربط الإنسان بربه و بذلك تنشأ علاقة ثلاثية الأبعاد: علاقة الإنسان بربه و هي علاقة عبودية، و علاقة الإنسان بالكون و هي علاقة تسخير، و علاقة الإنسان بأخيه الإنسان و هي علاقة أخوة و تعاون و تآزر. وهذا هو ما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
كما أن هذه الصلاة التي لا تكمل إلا بتلاوة الفاتحة تحمل الإنسان على الالتزام بالأوامر، والانتهاء عن النواهي، والإخلاص في العبادة بمفهومها الشامل، تعبيدا للحياة كل الحياة لرب الحياة.
إن سورة الفاتحة بصنيعها هذا شأنها شأن القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة تعمل على تشكيل التفكير الاستراتيجي، المنطق من منظومة أسها العقيدة، وصلبها الأحكام العملية، ونتاجها السلوك والأخلاق. إنها إعلان عن ميلاد الإنسان المتحرر من جميع مظاهر العبودية، ليكون عبدا خالصا لله تعالى، الإنسان العدل، الذي لا يظلم ولا يقبل الظلم، مفتاح للخيرات ومغلاق للسوء والفحشاء، حرب على الطغاة والظلمة، سند للمستضعفين ودعم للمقهورين.
إنسان ينطلق من نية صحيحة، مجدد لهذه النية، مما يعوده على التفكر والتدبر في كل أمر قبل الشروع في تنفيذه، لا يؤمن بالتلقائية والفوضى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49). بل يلبس لكل أمر لبوسه بعد الاستخارة والاستشارة، يأخذ بالأسباب المناسبة والكافية، معتمدا منهج التدرج المؤسس على الأهداف والمقاصد، لأنه لا يؤمن بمنطق الطفرة، المفضي إلى نتائج عكسية، كما تثبت ذلك تجارب الحياة العملية.
إنسان عماده في كل أعماله الإخلاص الذي هو سبيل الجودة والإتقان والوفرة، وهي شروط التنمية المستديمة، التي تفضي إلى تحقيق الرفاهية، المحققة للكرامة التي ارتضاها الله تعالى لعباده.
¥