تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والذي يدل عليه ما رواه المعرور بن سويد، بإسناد صحيح على شرط مسلم، حيث قال: (خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بِيَعاً، فمن عرضت له فيه صلاةٌ فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض).

وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، وفي آخر صحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ).

وأما استدلال الأخ (زهير) بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أعرف أنك حجر لا تضر ولا تنفع لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك). فإنه استدلالٌ على عكس مقصود عمر، إذ أن الحجر مما مسته يد الأنبياء، كما مسته يد نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قبّله بفمه الشريف، فلو كان ذلك يقتضي البركة، لكان تقبيل الحجر لسببين: البركة فيه، ولأجل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي أثبته عمر إنما هو المتابعة، ونفى غيره، وهذا ما يُبطل استدلال الأخ (زهير) به، بل هو على عكس مراده، فعمر –رضي الله عنه- نفى أن يكون تقبيل الحجر من أجل البركة، وأثبت أن الأمر مجرد عبادة واتباع وانقياد لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ويجب أن يسأل الإنسان نفسه: لماذا خصَّ عمر –رضي الله عنه- هذا الاستثناء بالحجر الأسود دون سواء؟ أليس في هذا الدليل أن المسألة مسألة عبادة ومتابعة، لا مسألة تبرك؟ لذلك اتفق العلماء على أنه لا يشرع استلام وتقبيل مقام إبراهيم –عليه السلام-، مع أنه موضوع قدمي الخليل عليه السلام، فكيف يُشرع التبرك بما لم يثبت ببرهان أنه من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بما لم يقصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذاته؟

قال الإمام النووي الشافعي: (لا يُقبّل مقام إبراهيم ولا يستلمه، فإنه بدعة).

وروى ابن جرير عن قتادة قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها.

يقولون هذا في المقام، مع أنه مقامُ نبيٍ من أنبياء الله –تعالى-. وقد قال ابن القيم في زاد المعاد: (ليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيله واستلامه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه؛ غير الحجر الأسود، والركن اليماني).

وقال الإمام النووي: (يكره مسحه –أي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبتعد منه كما يبتعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يُغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك .. ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع).

ولو جاز التقبيل والتمسح بكل ما مسَّه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لرأينا الصحابة -رضي الله عنهم- يتمسحون بجدران بيته والأماكن التي مسّها صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما لم يُنقل ألبتة لعدم حصوله. ثم التقبيل والتمسح إنما يُفعل كعبادةٍ، والعبادة لا بد لها من دليل، مثلها مثل الطواف والسعي.

ولو جاز جعل القبر محلاً للتقبيل والتمسح والتبرك والطواف: لكان عيدًا يقصده الناس للاجتماع والتعظيم، وطلب الحاجة، وهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجعلوا قبري عيدًا، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم).

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة رضي الله عنها: (لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشي أو خُشي أن يُتخذ مسجدًا).

ولذلك لم يثبت أن أحدًا من الصحابة أو من التابعين لهم بإحسانٍ قد تبركوا بقبر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أو أمروا بذلك، بل كانوا ينهون عن ذلك.

ومما استدل به الأخ (زهير) قصة (منديل المسيح) ووصفها بأنها رواية رائعة. أقول: ما هكذا يستدل أهل العلم، فإن هذه القصة باطلة، ولا أساس لها من الصحة، حيث أن المؤرخ (حسين الديار بكري) ساقها في كتابه (تاريخ الخميس) من غير سندٍ أو مصدرٍ، مع أن ما بينه وبين الحادثة نحو ثمانمائة سنة، هذا أولاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير