يريد أن يثبت أن خالداً ـ رضي الله عنه ـ اكتسب القوة والجلد من البدو في الصحراء، ولم يجد دليلا على ذلك، بل وجد عدداً من الأدلة وقوفاً يقطعون عليه الطريق ويأمروه بالرجوع. منها أن القرآن الكريم صريحٌ بأن أولاد الوليد بن المغيرة ـ ومنهم خالد ـ كانوا شهوداً حول أبيهم بمعنى أنهم لم يتركوه {وَبَنِينَ شُهُوداً} المدثر13. ومنها أن خالداً ـ رضي الله عنه ـ لم يكن بدوياً، وإنما من حواضر الجزيرة .. من أم القرى (مكة المكرمة)، ولم تأتِ الأخبار بأنه عاشر البدو .. لا يوجد في الكتب خبر يفيد أن خالداً بادَ في الأعراب.
ماذا فعل العقاد أمام هذه الأدلة التي تقطع عليه الطريق وتأمره بالرجوع؟
كعادته راح يحتال ويكذب.
راح عباس العقاد يحور ويدور حول النص الصريح والحقائق الثابتة في التاريخ كي يثبت أن خالداً كان قوياً بنشأته وفطرته وأنه كان على علم تام بالصحراء والعرب ولذا استطاع أن يهزمهم في حروب الردة وما بعدها. ويتكلَّم من تلقاء نفسه، يكذب، أو قل يخدع القارئ البسيط، يقول: (فلعله سافر كثيراً في الجزيرة قبل الإسلام، ولعله عرف في تلك الأسفار دروبها العصية التي كان يطرقها من العراق إلى الحجاز ومن الحجاز إلى اليمن، ومن نجد إلى الشام)
ولنا أن نسأل: إذا كان السر في نشأة البادية، فكيف هزم خالد من نشأ عندهم وتحلى بصفاتهم وهم أوفر عدداً وعدة؟!
إننا لو قلنا بقول العقاد أن السر في النشأة في البادية لكان أولى بالنصر أهل البادية.
وخالد وأحدٌ من قريش لم يكن يتجول في الصحراء، بل كانوا يسيرون في الدروب المشهورة ولا يقتحمون الصحراء، وكانت رحلاتهم شمالا وجنوباً وليس تجوالا في دروب الصحراء، ولم يعرف خالد بتجارة، والعقاد يقر بذلك بعد هذا الكلام بقليل، وخالد كان يسير بدليل لا بغير دليل في الصحراء.!!
إنه العقَّاد. يكذب ويحتال ويلف الكذب في ثوب البيان .. إنه العقاد يتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وليس عنده سوى:
إنكار أثر العقيدة في حياة خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ.
سوى القول بأن الإسلام لم يضف شيئاً لخالد.
سوى القول أن السبب هو النشأة والصفات الموروثة وليس العقيدة.!!
فقط ألفت النظر إلى أن العقاد يملك مسلمات قبل البحث، ويحاول أن يصل إليها عنوة رغماً عن الدليل، وإن لم يطاوعه الدليل تخطاه وركب الكذب مستخفاً بعقول من يقرأ.
الفت النظر للعقاد وقد (نفخوه) حتى جعلوه (عملاقاً) قزم صغير ليس عنده سوى الكذب وخداع القراء.
وهذا دليل آخر يؤكد كلامي، يقول ـ وهو يتكلم عن خالد بن الوليد ـ بأن بني مخزوم (باءوا بأسباب المحافظة على القديم جميعاً حين تصدى الإسلام لتبديل ذلك القديم، فهم أول من يصاب بهذه الدعوة الجديدة وآخر من يلبيها وله مندوحة عنها، ومن ثم كانت المصاولة بين الإسلام والجاهلية في وجه من وجوهها مصاولة بين محمد عليه السلام وبين خالد بن الوليد الذي انتهى إليه شرف الرئاسة المخزومية في ذلك الأوان) (27)
هذا الكلام في صفحة 22، وبعده بقليل وهو يحسب عمر خالد بن الوليد يقول قولاً آخر، يقول بأن خالداً كان غلاماً صغيراً والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة.
وفي كل الأحوال العقاد يتعدى على الحقيقة بكثيرٍ من قلة الحياء، فخالد لم يكن يوماً رأس بني مخزوم، ولا رأس بني أبيه، فضلاً عن أن يكون رأس المشركين كلهم ويكون هو رأس الجاهلية في مواجهة سيد البشرية صلى الله عليه وسلم (28).
لاحظ شيء، آلية التفكير عند عباس واحدة، وتنبني على أن من آمن آمن لغرض ما غير العقيدة، إما إعجاباً بالنبي، وإما نكاية في أهله.
وفي كل مرة يفسر كل الخلافات استناداً للقرابة .. القبلية، فهذا مجافٍ لأهله ولذا خالفهم حين كفروا فآمن، وهؤلاء منافسين لبني هاشم ولذا لم يؤمنوا، وعائشة تريد طلحة لأنه من بني عمومتها، وأهل الشورى انقسموا على القرابة بين علي وعثمان.
حين يتكلم عن أحدٍ من بني أمية يصور لك جبهة الكفر وكأنَّ بنو أمية هم الكفر ومن يحمل الناس على الكفر، والآن يتكلم عن خالد بن الوليد فيصور لك جبهة الكافرين وكأن ليس فيها إلا بني مخزوم كفروا وحملوا الناس على الكفر. والتضارب شيمة المزورين الكذابين الأفاكين.
¥