قال ابن رشد في الرد عليهم: وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقاً ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله تعالى عليها، ودعا الناس إلى الإيمان به من قِبلها.
وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالَم حادث وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث، والأجسام محدثة بحدوثه.
وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد، طريقة مُعتاصةٌ، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلاً عن الجمهور. ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية إلى وجود الباري سبحانه.
وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لَزِم، كما يقولون، أن يكون له ولا بدّ، فاعلٌ محدِث. ولكن يعرض في وجود هذا المحدِث شك ليس في قوة صناعة الكلام الانفصال عنه. وذلك أن هذا المحدِث لسنا نقدر أن نجعله أزلياً ولا محدثاً.
أما كونه محدَثاً، فلأنه يفتقر إلى محدِث، وذلك المحدِث إلى محدِث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل ...
الكشف عن مناهج الأدلة (29 - 31)
وقال ابن رشد: وأيضاً فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت بين هذين الوصفين معاً: أعني أن الجمهور ليس في طباعهم ولا هي مع هذا برهانية. فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور. ونحن ننبه على ذلك ها هنا بعض التنبيه، فنقول: إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان:
أحدهما وهو الأشهر، الذي اعتمد عليه عامتهم، ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الأصول لما يرومون انتاج عنها من حدوث العالم: إحداهما: أن الجواهر لا تنفك من الأعراض أي لا تخلو منها. والثانية: أن الأعراض حادثة. والثالثة: أن لا ينفك عن الحوادث حادث، أعني ما لا يخلو من الحوادث هو حادث.
فأما المقدمة الأولى وهي القائلة إن الجواهر لا تتعرّى من الأعراض فإن عَنَوْ بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد، ففيها شك ليس باليسير؛ وذلك أن وجود جوهر غير منقسم، ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند. وليس في قوة صناعة الكلام تخليص الحق منها، وإنما ذلك لصناعة البرهان، وأهل هذه الصناعة قليل جداً. والدلائل التي تستعلمها الأشعرية في إثباته هي خطابية في الأكثر. وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو أنهم يقولون: إن من المعلومات الأُوَل أن الفيل، مثلاً، إنما نقول فيه إنه أعظم من النملة من قِبل زيادة أجزاء فيه على أجزاء النملة. وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء، وليس هو واحداً بسيطاً. وإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب.
وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شَبَهِ الكمية المنفصلة بالمتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة. وذلك أن هذا إنما يصدق في العدد؛ أعنى أن نقول: إن عدداً أكثر من عدد من قِبَل كثرة الأجزاء الموجودة فيه، أعني الوحدات. وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه. ولذلك نقول في الكم المتصل: أنه أعظم وأكبر، ولا نقول إنه أكثر وأقل. ونقول في العدد: إنه: إنه أكثر وأقل، و نقول أكبر وأصغر. وعلى هذا القول، فتكون الأشياء كلها أعداداً ولا يكون هنالك عِظَم متصل أصلاً. فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها.
ومن المعروف بنفسه أن كل عظَم فإنه ينقسم بنصفين، أعني الأعظام الثلاثة التي هي الخط والسطح والجسم. وأيضاً فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يعرض عليه في وسط نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعاً، وليس يمكن ذلك في العدد.
لكن يعارض هذا أيضاً أن الجسم وسائر أجزاء الكم المتصل يقبل الانقسام. وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم أو إلى شيء غير منقسم. فإن انقسم إلى غير منقسم فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم. وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال أيضاً في هذا المنقسم، هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم؟ فإن انقسم إلى غير نهاية، كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها. ومن المعلومات الأول أن أجزاء المتناهي متناهية.
¥