من أمر الله} [الرعد: 11].
ولما كانت الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود، لا تخل في ذلك، بحسب ماقدرها بارئها عليه، وكانت إرادتنا وأفعالنا لا تتم ولا توجد بالجملة إلا بموافقة الأسباب التي من خارج، فواجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود. أعني: أنها توجد في أوقات محدودة ومقدار محدود.
وإنما كان ذلك واجباً، لأن أفعالنا تكون مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج. وكل مسبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة، فهو ضرورة محدود مقدار. وليس يلفى هذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط , بل وبينها وبين الأسباب التي خلقها الله تعالى في داخل أبداننا.
والنظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجية، أعني التي لا تخل، هو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده. وهو اللوح المحفوظ. وعلم الله تعالى بهذه الأسباب. وبما يلزم عنها هة العلة في وجود هذه الأسباب. ولذلك كانت هذه الأسباب لا يحيط بمعرفتها إلا الله وحده. ولذلك كان هو العالم بالغيب وحده على الحقيقة، كما قال تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} [النمل:65]. وإنما كانت معرفة الأسباب هو العلم بالغيب لأن الغيب هو معرفة وجود الموجود في المستقبل، أولا وجوده.
ولما كان ترتيب الأسباب ونظامها هو الذي يقتضي وجود الشيء في وقت ما، أو عدمه في ذلك الوقت، وجب أن يكون العلم بأسباب شيء ما هو العلم بوجود ذلك الشيء، أو عدمه في وقت ما. والعلم بالأسباب على الإطلاق هو العلم بما يوجد منها أو ما يعدم في وقت من جميع الزمان. فسبحان من أحاط اختراعاً وعلماً بجميع أسباب جميع أسباب جميع الموجودات. وهذه هي مفاتح الغيب المعنية في قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} [الأنعام: 59].
وإذا كان هذا كله كما وصفنا، فقد تبين لك كيف لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وبقدر سابق. وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث، التي يظن بها التعارض، وهي إذ خصصت عموماتها بهذا المعنى انتفى عنها التعارض. وبهذا أيضاً تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك. أعني: الحجج المتعارضة العقلية، أعني: أن كون الأشياء الموجودة عن إرادتنا يتم وجودها بالأمرين جميعاً، أعني: بإرادتنا وبالأسباب التي من خارج. فإذا نسبت الأفعال إلى واحد من هذين على الإطلاق لحقت الشكوك المتقدمة.
فإن قيل: هذا جواب حسن، يوافق الشرع فيه العقل. ولكن هذا القول هو مبني على أن ها هنا أسباباً فاعلة لمسببات مفعولة، والمسلمون قد اتفقوا على أن لا فاعل إلا الله؟
قلنا: ما اتفقوا عليه صحيح. ولكن على هذا جوابان.
أحدهما: أن الذي يمكن أن يفهم من هذا القول هو أحد أمرين: إما أنه لا فاعل إلا الله تبارك وتعالى وأن ما سواه من الأسباب التي يسخرها ليست تسمى فاعلة إلا مجازاً، إذ كان وجودها إنما هو به، وهو الذي صيرها موجودة أسباباً، بل هو الذي يحفظ وجودها في كونها فاعلة، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها ويخترع جواهرها عند اقتران الأسباب بها. وكذلك يحفظها هو في نفسها. ولولا الحفظ الإلهي لها لما وجدت زماناً مشاراً إليه، أعني: لما وجدت في أقل زمان يمكن أن يدرك أنه زمان.
وأبو حامد يقول إن مثال من يشرك سبباً من الأسباب مع الله تعالى في اسم الفاعل والفعل مثال من يشرك في فعل الكتابة القلم مع الكاتب، أعني أن يقول: إن القلم كاتب، وأن الإنسان كاتب. أي كما اسم الكتابة مقول باشتراك الاسم عليهما، أعني أنهما معنيان لا يشتركان إلا في اللفظ فقط، وهما في أنفسهما في غاية التباين، وكذلك الأمر في اسم الفاعل إذا أطلق على الله تبارك وتعالى وإذا أطلق على سائر الأسباب.
ونحن نقول: إن في هذا التمثيل تسامحاً. وإنما كان يكون التمثيل بينا لو كان الكاتب هو المخترع لجوهر القلم، والحافظ له ما دام قلماً، ثم الحافظ للكتابة بعد الكتب، والمخترع لها عند اقتران القلم به، وعلى ما سنبينه بعد من أن الله تعالى هو المخترع لجواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها، التي جرت العادة أن يقال إنها أسباب لها.
¥