فهذا الوجه المفهوم من أنه لا فاعل إلا الله هو مفهوم يشهد له الحس والعقل والشرع. أما الحس والعقل فإنه يرى أن ها هنا أشياء تتولد عنها أشياء، وأن النظام الجاري في الموجودات إنما هو من قبل أمرين: أحدهما: ماركب الله فيها من الطبائع والنفوس. الثاني: من قبل ما أحاط بها من الموجودات من خارج.
وأشهر هذه هي حركات الأجرام السماوية، فإنه يظهر أن الليل و النهار والشمس والقمر وسائر النجوم مسخرات لنا. وأنه لمكان النظام والترتيب الذي جعله الخالق في حركاتها، كان وجودنا ووجود ما ها هنا محفوظا بها، حتى إنه لو توهم ارتفاع واحد منها، أو توهم في غير موضعه، أو على غير قدره، أو في غير السرعة التي جعل الله فيه، لبطلت الموجودات التي عل وجه الأرض وذلك بحسب ما جعل الله في طباعها من ذلك وجعل في طباع ما ها هنا أن تتأثر عن ذلك. وذلك ظاهر جداً في الشمس والقمر، أعني تأثيرهما فيما ها هنا، وذلك بين في المياه والرياح والأمطار والبحار، وبالجملة في الأجسام المحسوسة. وأكثر ما يظهر ضرورة وجودها في حياة النبات وفي الكثير من الحيوان بل في جميع الحيوان بأسره.
وأيضاً فإنه يظهر أنه لولا القوى التي جعلها الله تعالى في أجسامنا من التغذي والإحساس لبطلت أجسامنا. كما نجد جالينوس وسائر الحكماء يعترفون بذلك، ويقولون: لولا القوى التي جعلها الله في أجسام الحيوان مدبره لها لما أمكن في أجسام الحيوان أن تبقى ساعة واحدة بعد إيجادها.
الكشف عن مناهج الأدلة (109 - 113)
المسألة السابعة والعشرون: في القضاء والقدر
قال ابن رشد: وهذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية. وذلك أنه إذا تأملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة. وكذلك حجج العقول.
أما تعارض أدلة السمع في ذلك فموجود في الكتاب والسنة. أما في الكتاب فإنه تلفى فيه آيات كثيرة تدل بعمومها على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبور على أفعاله. وتلفى فيه أيضا آيات كثيرة تدل على أن للإنسان اكتساباً بفعله، وأنه ليس مجبوراً على أفعاله.
أما الآيات التي تدل على أن الأمور كلها ضرورية، وأنه قد سبق القدر، فمنه قوله تعالى: {إنا كل شي خلقناه بقدر} [القمر:49]. وقوله: {وكل شيء عنده بمقدار} [الرعد: 8]. وقوله: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} [الحديد: 22] إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن هذا المعنى.
وأما الآيات التي تدل أن اللإنسان اكتساباً، وعلى أن الأمور في أنفسها ممكنة لا واجبة، فمثل قوله تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير}. وقوله تعالى: {فبما كسبت أيديكم}
[الشورى:30] وقوله تعالى: {والذين كسبوا السيئات} [يونس:27]. وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]. وقوله تعالى: {وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17].
وربما ظهر في الآية الواحدة التعارض في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {أو لما أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165]. ثم قال في هذه النازلة بعينها: {وما أصبكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166] ومثل ذلك قوله تعالى: {قل كل من عند الله} [النساء: 78].
وكذلك تلفى الأحاديث في هذا أيضا متعارضة. مثل قوله عليه السلام: ((كل مولود يولد الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه)). مثل قوله عليه السلام: ((خلقت هؤلاء للجنة وبأعمال أهل الجنة يعلمون، وخلقت هؤلاء للنار، وبأعمال أهل النار يعلمون)) فإن الحديث الأول يدل على أن سبب الكفر إنما هو المنشأ عليه، وأن الإيمان سببه جبلة الإنسان. والثاني يدل على أن المعصية والكفر هما مخلوقان لله، وأن العبد مجبور عليهما. ولذلك افترق المسلمون في هذا المعنى إلى فرقتين: فرقة اعتقدت أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة، وأن لمكان هذا ترتب عليه العقاب والثواب، وهم المعتزلة. وفرقة اعتقدت نقيض هذا، وهو أن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور، وهم الجبرية.
الكشف عن مناهج الأدلة (107 - 109)
ومعلوم أن الأشاعرة في باب القدر جبرية , وهم في مقابل المعتزلة القدرية , وهدى الله أهل السنة للقول الوسط بين الإفراط والتفريط.
المسألة الثامنة والعشرون: الجور والعدل
¥