ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله مع العلم بأن الرسول لم يشرعها وتركه لها مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن أبناء النصارى وأمثالهم وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين أو الأولين ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا استنباطا بحال ..
والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل
أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث اليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة
فإن كان هذا وحده دليلا على أن يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض
ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعا وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجع بلا مرجح والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد
فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم فإن الواحد إذا أحسن للظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثره مثل تأثر من حسن الظن بواحد دون آخر وهذا كله من خصائص الأوثان
ثم قد استجيب لبلعم بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان
والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون
وأما الجواب المفصل فنقول:
مدار هذه الشبهة على أصلين، منقول وهو ما يحكى من نقل هذا الدعاء عن بعض الأعيان، ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة
فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط وليس بحجة بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك
وأما المعقول فنقول عامة المذكور من المنافع كذب فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات .. الخ وكلامه كثير طيب.
المسألة الثالثة: رأيه في الدعاء عند القبور ودعاء المقبور ذاته والفرق بينهما.
تبين أنه يرى في دعاء المخلوق من دون الله شرك ..
ولكن رأيه في الدعاء عند قبور الصالحين ظاهر ينتصر له ..
قال في سير أعلام النبلاء - (ج 10 / ص 316)
عند ذكر حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ".
معناه: لا تشد الرحال إلى مسجد، ابتغاء الأجر سوى المساجد الثلاثة، فإن لها فضلا خاصا، فمن قال: لم يدخل في النهي شد الرحل إلى زيادة قبر نبي أو ولي، وقف مع ظاهر النص، وأن الأمر بذلك والنهي خاص بالمساجد، ومن قال بقياس الأولى، قال: إذا كان أفضل بقاع الأرض مساجدها، والنهي ورد فيها، فما دونها في الفضل كقبور الأنبياء والصالحين، أولى بالنهي، أما من سار إلى زيارة قبر فاضل من غير شد رحل، فقربة بالإجماع بلا تردد، سوى ما شذ به الشعبي ونحوه، فكان بلغهم النهي عن زيارة القبور، وما عملوا بأنه نسخ ذلك، والله أعلم. اهـ
وقال في تاريخ الإسلام: في ترجمة سلطان بن محمود البعلبكي الزاهد:
وحكى الشيخ الصالح محمود بن سلطان أن أباه كانت تفتح له أبواب بعلبك بالليل. وقال لي: إذا كانت لك حاجة تعال إلى قبري واسأل الله فإنها تقضى.
قال الذهبي: فهذا ما وجدت من أخبار هذا الشيخ، وفي النفس شيء من ثبوت هذه الحكايات.
والدعاء عند القبور جائز لكن في المسجد أفضل، وفي السحر أفضل، ودبر الصلاة أفضل، والصلاة لا تجوز عند القبور الفاضلة.
وأما مضي الولي إلى مكة فممكن، لكن ذلك بلطيفته لا بهذا الجسد، فالذي أُسري به ليلاً إلى المسجد الأقصى هو سيد البشر، وذلك كان بجسده لا يشاركه في ذلك بشر إلا أن يشاء الله. اهـ
وقال سير أعلام النبلاء - (ج 11 / ص 143)
¥