أولا: إن حقيقة هذه الدعوة فتح باب الاجتهاد لكل من هب ودب، والسماح لأي كان من أفراد المجتمع أن يتكلم في الحلال والحرام والسياسة العامة وأحكام الاقتصاد والاجتماع وغير ذلك حتى الفساق، بل وللمنافقين أيضا حق ونصيب في هذا الاجتهاد الشعبي، وهذا ما لم يقله أحد من العقلاء المنتسبين إلى ملة الإسلام.
ثانيا: ولو قيل هذا الكلام في غير الشرع لما قبله العقلاء جميعا، فهل يعقل أن يجتهد في الطب إلا الأطباء وفي الكمياء إلا الكميائيون؟ وهل يقبل كلام العوام من الأعاجم في مسائل النحو والعربية.
ثالثا: إن الترابي في حجته الأساسية قال إن الأصول كانت متطورة في الصدر الأول للإسلام، فهل له أن يرينا نماذج من الاجتهاد الشعبي في عصر عمر رضي الله عنه، إن الذي نجده في الآثار المنقولة أن العامة كانوا يرجعون إلى فقهاء الصحابة والتابعين، ولم يكن كل واحد يعمل برأيه الخاص.
رابعا: إن تشبيهه لفقهاء الإسلام برهبان النصارى المحتكرين للدين كلام في منتهى الخطورة ينبغي أن يستتاب منه ([35] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn35))، وأين هو من قوله تعالى:] وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [(النساء:83) وقوله:] فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [(النحل:43).
خامسا: ثم إنه تناقض فجعل أهلية الاجتهاد لبعض أفراد الأمة وليس لجميعها، لكن عامة الناس هم من يهبون هذه الأهلية إلى من يشاؤون، أولم يعلم أن فاقد الشيء لا يعطيه والجاهل بالشيء لا يشهد به.
سادسا: إن حقيقة الفقه الشعبي الذي وصف هو الفوضى بعينها، ثم إنه لما شعر بذلك أراد أن يضبط أقوال الشعب بالإجماع الواسع وأوامر الحكام ولكنه عاد ففتح الباب للفوضى إذ قال: «أو تكون مسألة فرعية غير ذات خطر يفوضونها إلى سلطانهم وهو من يتولى الأمر العام حسب اختصاصه بدءا من أمير المسلمين وإلى الشرطي والعامل الصغير» فكم من شرطي يوجد في الدولة وكم من عامل صغير؟؟
سابعا: إنه إذا كانت الديمقراطية التي هي حكم الشعب عن طريق الأغلبية ضلالا وكفرا، فكيف يكون حال هذه الديمقراطية الشعبية الفوضوية، قال عدنان أمامة: «إن الترابي بهذا الرأي يقترب خطوات كبيرة من العلمانيين الذين يجعلون الشعب وليس الشرع مصدرا للسلطة والحكم» ([36] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn36)).
الفرع الرابع: أوامر الحكام
والدليل الرابع من دلائله أوامر الحكام وجواب هذا الدليل على النحو الآتي: إن معنى طاعة ولاة الأمر معنى مقيد بما هو طاعة لله تعالى أو بما هو من أمور الدنيا التي هي في إطار العفو، وليس معنى هذا أن تكون أوامرهم مصدرا من مصادر التشريع كما زعم الترابي، وإن طاعتهم واتباعهم في أمور الاجتهاد الفقهي ممكن إذا ما كانوا أهلا له من العلماء، وقد نص الفقهاء على أن من شرط ولي الأمر أن يكون مجتهدا فآل الأمر إلى طاعة العلماء.
وكذلك إن ولاة الأمر المأمور بطاعتهم هم العلماء والأمراء، فلماذا تكون طاعة العلماء (ولو فيما اتفقوا عليه) كهنوتية كاثوليكية، وتكون طاعة أفراد الحكام (ولو كانوا جهالا بالدين) واجبة، ويعاب على الأصوليين عدم اعتمادهم إياها ([37] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn37)).
الخلاصة
الخلاصة أن الترابي لا يختلف في دعوته عن العصرانيين العلمانيين الذين أعلنوا رغبتهم في تجديد الدين، وأنهم هم أصحاب الفكر الديني المستنير، الذين يريدون أن ينتشلوا الأمة من كبوتها وتأخرها، فدعوا إلى تطوير الدين بهدم العلوم المعيارية أي: علم أصول التفسير وعلم أصول الفقه وعلم أصول الحديث، ورفض الاحتجاج بالسنة النبوية كليا بحجة عدم ملاءمتها لمصلحة الأمة وظروف العصر الحاضر، أو على الأقل رفض ما سموه سنة غير تشريعية وهي السنة التي تخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموما، وفتح باب الاجتهاد على مصراعية حيث يكون لكل مسلم نصيب منه، وزعموا أن حق الفقه في الإسلام أن يكون فقها شعبيا، ودعوا إلى أن يكون للحكام أيضا حقهم في سن القوانين ووضع الشرائع. وخلاصة الخلاصة الدعوة إلى الخروج من أسر الشريعة وقيودها إلى بحبوحة القوانين الوضعية، وممارسة الحرية في ظل الديمقراطية.
¥