تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

1 - كان القدماء من علمائنا أكثر دقة وصدقا وتمسكا بالمنهجية العلمية الصارمة في تناولهم لكتب من سبقهم. فوضعوا لذلك مصطلحات، والتزموها في هذا المجال. فالتخريج: تخريج، لا غير .. والشرح: شرح ... وكذا الأمر بالنسبة للحاشية، والتقرير، والتعليق. أما في زماننا، فقد أصبحت لفظة "التحقيق" فضفاضة على وجه الحقيقة، حمَّالة لكل أصناف الاشتغال بمؤلفات السابقين. هذه الضبابية هي التي أوصلت بعض الفهوم إلى أن التحقيق هو تخريج الأحاديث تحديدا والحكم عليها، كما أوصلت آخرين إلى أن التحقيق "فرصة" لاستعراض العضلات المعرفية من خلال التعليقات والحواشي المثقلة. ومن هنا أهمية تسمية ماهية الاشتغال بالعمل المخطوط. كأن يحدد المحقق في غلاف الكتاب عمله قائلا: تحقيق، ودراسة، وتعليق فلان الفلاني. وحتى هذه التحديدات صارت هي الأخرى فضفاضة، لا تؤدي المعنى المقصود منها. بل إن بعضها مثير للضحك، كأن تقرأ في غلاف أحد الكتب التراثية: "اعتنى به فلان بن فلان". وأنا لحد الآن لم أجد مدلولا لهذه العبارة، وكلما قرأتها ذهب ذهني إلى اعتبارات أخرى، لا داعي إلى ذكرها ... هذه واحدة.

2 - المهمة الأولى للمحقق هي: إخراج النص سليما، مضبوطا ضبطا جيدا، مطابقا لأرجح الأصول المخطوطات المعتمد عليها. وفي هذا الإطار تتحدد مهمة المحقق، ولا يخرج عنها إلا لضرورة يقتضيها المتن نفسه. أما الباقي، فتعليقات ينبغي أن تقدر بقدرها .. كأن تكون تخريجا لحديث، أو مقارنة لمأثور من القول بأصول أخرى، أو تصويبا لنص منقول من كتاب استنادا إلى الكتاب نفسه، أو تصحيحا لمعلومة تاريخية أو تاريخ وفاة علَم من الأعلام .. وما إلى ذلك، حتى يرتفع اللبس لدى القارئ، ولا يظن بالمحقق الغباء، إن كان من القراء النبهاء (وهم قلَّة).

3 - ظاهرة إثقال الرسائل والكتيبات بالحواشي "الكيلومترية" تنامت بشكل ملفت في الآونة الأخيرة. وهي تنم عن جهل بعض "المحققين" بأصول التحقيق، وضوابطه، وقواعده. فالاختصار ضربان: ضرب وُضِع تذكرة للعلماء، وآخر صُنِّف تعليما للدهماء. وفي كلتا الحالتين، لا مناص من التعامل بنسبية معتدلة مع المخطوط فيما يتعلق بمن همُّه التحقيق، أو اللجوء إلى الشرح وتسميته كذلك لمن يرى توضيح المبهمات أو فك المستغلقات أو زيادة الفائدة. فالمسألة تتعلق بمدى استيعاب المحقق لأصول عمله بالدرجة الأولى، ثم بمصداقيته ومصداقية دار النشر التي تتولى إنجازه. وقد رأينا في هذا المجال من"تجَّار الحرف" عجبا عجابا، ولو رحنا نستوفي الأمثلة لضاق بنا المجال.

4 - من حق المحقق أن يحيل على تحقيق آخر له في إحدى الحالات التالية:

_ إذا كان يعتبر تحقيقه المحال عليه أفضل من غيره من الطبعات. وهذا أمر بديهي لدى كل باحث متجرد. فلو لم ير أن تحقيقات غيره ناقصة أو قاصرة، لما قام بتحقيق الكتاب نفسه ..

- إذا كانت إحالته على حاشية قررها في تحقيق آخر. وذلك ابتعادا منه للتكرار، وحتى لا يُتَّهَم أنه ممن يستكثرون بالأسطر لرفع إيرادات أعمالهم.

_ إذا كان الكتاب في فن معيَّن، ويحتوي جزئية تقتضي التعليق، لكنها تتعلَّق بفن آخر قام هو بتحقيق كتاب فيه. فهنا لا مانع من الإحالة على تحقيقه ولا ضير.

_ إذا كانت الإحالة على تحقيقه لكتاب آخر صنفه المؤلف نفسه. فهذه من الإحالات التي التي تقتضيها المنهجية العلمية، إذا كان ذلك للمقارنة أو التصويب أو ما إلى ذلك ...

أما إذا كانت الإحالة تعسفية ومكرَهة، فأحكام المكرَه معروفة! (الجملة الأخيرة لتلطيف الجو، لا غير .. )

أما إذا كانت الإحالة تعسفية ومكرَهة، فهي تشي بذاتها عن نية صاحبها، وبالتالي تدخل في باب الإشهار التجاري، وتأكيد الذات ... إلخ.

5 - ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن الكتاب (مثله مثل أي منتَج مادي ملموس) يخضع للذهنية التجارية ومقتضيات السوق. كما ينبغي ألا يفوتنا أن لأصحاب دور النشر سطوة وتحكُّما لا يمكن التخلص منهما إلا بالمرونة والتحايل، بل وبالإقناع بحجج تجارية بحتة. فبعض هؤلاء، يأتيك برسالة مختصرة وقول لك: طلبت مني في البلد الفلاني، لكن بشرط أن "تمططها" إلى كذا ملزَمة. والبعض الآخر يأتيك بالمصنَّف الطويل المتكوِّن من عدة مجلدات بطبعاته المحققة في السوق، ويقول لك: أرجو أن تضغطه في مجلَّدين فقط، لأن القدرة الشرائية للمواطن في البلد الفلاني لا تسمح له باقتناء كتاب من ستة مجلدات، أو لأن كثرة المجدلدات ترهب القارئ و"تعقِّده" فيعزف عنها ... ومن هنا، لا تلوموا المشتغلين بالكتب (تصحيحا، أو تحقيقا ... إلخ)، ولوموا أصحاب دور النشر، بل لوموا الحكومات التي لم تنشئ مؤسسات رسمية تكتسح سوق الكتاب بمنتجات تحترم المقاييس العلمية للعناية بتراث الأمة.

6 - ينبغي ألا ننظر إلى الجانب السلبي فقط من ظاهرة "أشباه المحققين"، بل يحسن بنا أن نلتفت إلى جوانب إيجابية أخرى. فلعل إقدام هؤلاء على ما لا يعنيهم يوقظ المعنيين بالأمر، فيشمِّروا عن ساعد الجد ويخرجوا للناس النافع من جهودهم. إذ في نهاية المطاف: لن يبقى إلا النافع، فأما الزبد فيذهب جفاء ...

7 - وبالسابع يحسن الختام .. لا تنسوا أن المحققين مظلومون في هذا الزمن، وأنهم "غلابى" و"على أد الحال"، وأنهم يظلون مغمورين وإن أخرجوا للناس الدرر، وأن الذين يعرفونهم في الغالب هم من المحققين أنفسهم أو من المصابين بآفة الورق مثل حالنا، وأنهم يظلون رهائن من سبقوا وزبائن من لحقوا ... فهم أحيانا يحتاجون إلى كوة ضوء، يظهرون للناس من خلالها. فإذا لم يساعدهم أحد، فعلوا ذلك في المجال المسموح لهم بالتحرك فيه. ولا غضاضة عليهم في ذلك، فهم بثابة الجندي المجهول الناجي من معركة ظافرة: يحق له أن بروي بعض ذكرياته، استئناسا بغيره، وإيناسا لأمثاله.

فرفقا بالمحققين! وعطفا على حالهم! وقد يكبو الجواد، لكن حينها يقال: "جواد كبا، ولكل جواد كبوة" .. ثم إن الحكم يكون على الظاهر، والله يتولّى السرائر. ومَن كان منَّا بلا خطيئة، فلْيَرْمِ مرآته بحجر.

وبارك الله في الجميع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير