تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن: هذا الشعور بالكره والبغض والنفور، لا يستلزم التعدي وانتهاك الحقوق. بل لا ينافي مشاعر الشفقة والرحمة والرغبة في الإحسان. فمن الممكن أن تكره السكير العربيد سيء الأخلاق، وتنفر من مجالسته، أو الحديث معه، أو حتى رؤيته. وفي الوقت نفسه تشفق عليه، وتأسى لحاله، وربما تحمل نفسك على ما تكره، فتحادثه وتعظه وترغبه في الخير، علَّ الله ينفعه ويصلح حاله. فإن تغيرت حاله، نشأت في قلبك –تلقائياً- محبته. وإن أبى وعاند، بقي كرهك له كما هو، وربما زادَ.

هذا بالنسبة لمسلمٍ معه أصل الإيمان، لكنه عربيدٌ فاجرٌ سيء الأخلاق لم يحظ بتربيةٍ تهذب سلوكه. وأسوأ منه حالاً من يقارف أكبرَ جنايةٍ في الوجود، وهي الكفر بالله أو برسوله -صلى الله عليه وسلم-. فمثل هذا يفترضُ أن ينفرَ القلبُ السليمُ منه ولا يألفه، إذ (الأرواح جنودٌ مجندةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومتى لم يكره القلبُ وينفر ممن كفر بالله، دلَّ هذا على مرضه وفساده. فالمؤمن الحقُّ الذي سلم قلبه من الأوضار لا يستطيع -لو أرادَ- منع قلبه من كراهية الكافر بالله والنفرةِ منه. لكن مع ذلك، قد تأخذه الرأفة والشفقة على ذاك الكافر المكروه، فتراه يحسن معاملته، ويترفق به، ويرغبه في دين الحق، عله ينجح في إنقاذه من الكفر. لكن هذا السلوك شيءٌ لا علاقة له بالحب والكره، أو الألفة والنفرة.

فالمقصود من هذا أن كله: أن خصال السوء إذا اتصف بها شخصٌ، فإن القلبَ السليمَ ينفرُ منه. ولا يصلح هنا أن يقال: عليك أن تكره شربَ الخمرة. لكن لا يجوز أن تكره السكير العربيد. عليك أن تكره سوء الخلق، لكن ليس لك أن تكره الشخص سيء الأخلاق. عليك أن تكره الكذب والنفاق. لكن لا يجوز أن تكره الكذابين المنافقين. عليك أن تبغض الكفر. لكن ليس لك أن تكره الكافر! فمثلُ هذه التكلفات والتمحلات لا تستقيم ونصوص الشرعِ الصريحة الجلية، بل لا تتفق مع طباع النفوس السليمة من الدواخل. فمن لا يجد في قلبه كرهاً ونفرةً ممن ينسب لربه الولد، أو يشرك معه غيره في ألوهيته أو ربوبيته. فما قدر الله حق قدره.

ومن لم يدرك غورَ هذه المسألة، فليتأمل كيف حكى الله ردة فعل الجمادات الصماء حين تسمعُ الكفر المجلجل. يقول –تعالى-: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً. لقد جئتم شيئاً إدَّاً، تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرضُ، و تخرُّ الجبال هداً. أن دعو للرحمن ولداً).

فالسماوات كادت تتفطر لما سمعت من ينسبُ لله الولدَ. وكادت الأرض تنشق، وأوشكت الجبال أن تخر. فماذا عن قلب المؤمن حين تطرقه مثلُ هذه المقولة الفاجرة؟ إن لم يبغض ويكره وينفر، فلا ريبَ أنه قلبٌ محجوبٌ عن حقائق الإيمان، بل محروم من حلاوته ولذته التامة: (لا يجدُ أحدٌ حلاوةَ الإيمان حتى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله .. ).

د. الماجد نقل عن فاضلٍ معروفٍ وصفه بأنه (فيلسوف السلفية). نقل عنه قوله: "لا أعرفُ كيف يطلب إليَّ بعضُهم أن أكره رجلاً نصرانياً يمشي في الشارع. وحتى لو أردتُ أن أكرهه فلن أستطيع".

فليأذن لي د. الماجد أن أنقل له مقولةً لمن هو أفضلُ وأجلُ وأعلم وأرسخ علماً وفهماً. علَّ (فيلسوف السلفية) يفهم من ذلك ما غابَ عنه، فيدرك حقائق الإيمان ومقتضياته. فقد كان الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ إذا نظرَ إلى نصرانيٍّ أغمض عينيه. فلما سئل عن ذلك قال: "لا أقدرُ أنظر إلى من افترى على الله وكذبَ عليه". فليقرأ هذا (فيلسوفُ السلفية)، عله يدرك كيف يستطيع أن يكره نصرانياً يمشي في الشارع.

أما إمامُ الإسلام الآخرُ ابن تيمية، فكان يقول: "ليُعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك. والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك".

أما سيدُ هؤلاء جميعاً، فاروق الأمة عمرُ بن الخطاب –رضي الله عنه-، فقد صحَّ أن رجلاً من أهل الشام قدمَ عليه فسأله عمر: لعلكم تجالسون أهل الشرك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: إنكم إن جالستموهم أكلتُم وشربتُم معهم، ولن تزالوا بخيرٍ ما لم تفعلوا ذلك.

هكذا فقِهَ هؤلاء وسائر أئمة الإسلام وحي الله وشرعه.

******

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير