تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد كان هَدفُ النَّدوةِ على وَجْهِ التَحْديد، دراسةَ جهودِ ابْنِ خَلدون دراسةً مَعْرِفِيَّةً ومَنَْهِجَّيةً ناقِدَة، في محاولةٍ لِفَتْح آفاقٍ جديدةٍ في فَهْم وَاقِع الأُمَّة في عهْدِ ابْنِ خَلدون، وفَهْم اسْتِجابَة ابنِ خَلدون لذلك الواقع، وانعكاساتِ ذلك على مَسيرَةِ الفِكْرِ الإسلامِيّ حتى اليوم والغد. وكان من المُؤَمَّل أنْ تَتَجنَّب بحوثُ الندوَةِ ومداولاتُها الاقتصارَ على الحُكْمَ الإجْمَاليّ- الإيجَابِيّ أو السَّلْبِيّ- على الفكر الخلدوني بجوانبه المختلفة، وتركِّز في المُقَابِِل، على القيمةِ الموضوعيةِ لهذا الفِكر في كلِّ جانبٍٍ من جَوَانِبِه، وذلك في سياق رُؤْيَتِهِ الكُلِّيةِ ومَنْهَجِهِ في البحث والتفكير، وعلى محاولةِ فَهْم أبْعادِ العَطَاءِ الفِكْرِيّ والنظرات الخاصة لابْنِ خَلدون في السياق التاريخي والاجتماعي لِتَطَوُّرِ الفِكْرِ الإسلاميّ والفِكْر الإنْسَانِيّ.

وعلى كُلِّ حَالٍ، فإنَّ ثَمَّة حَوَافِز عديدةٍ لدراسة ابنِ خَلدون؛ فالقِرَاءَةُ في كتابِِ "المقدّمةِ" عَمَلٌ مُمْتع حقاً، ويتعمّقُ الشعورُ بالمتعة عندما يكتشفُ القارئُ أنَّ في الكتاب الكثيرَ مِمّا له علاقةٌ بالواقع المعاصر، وفيه شئٌ مِمّا يرتبطُ بخلفيّةِ القارئ أيّاً كان تخصُّصُه، إضافةً إلى أنّ لغةَ الكِتابِ قريبةٌ سهلةُ المنال، وتتكرّرُ المصطلحاتُ والمفرداتُ المفتاحية للمؤَلِّف في مواقعَ متعددة، سرعان ما تصبحُ مألوفةً واضحةَ الدَّلالة. ورُبَّما يُسهِمُ ذلك –ولو بصورة جزئية- في تفسير الإقْبَال على دِرَاسِةِ المقدمة، مِنْ فِئَاتٍ متعددة مِنَ: المفكرين، والباحثين من مُخْتَلِف التَّخَصُّصات.

ومِنَ المؤكَّدِ أنَّ عبدَ الرحمن ابنَ خَلدون كان عالماً موسوعياً، شأنُهُ في ذلك شأن كثيرٍٍ من علماءِ عصرِهِ والعصورِ السابقة، وأنَّه قد حصّل نصيباً مقدّراً من ألْوَان المعرفةِ والثقافةِ المتعددة التي كانت سائدةً في عَصره. ويشهدُ لذلك ما أشار إليه في تعريفِهِ بِنَفْسه في كتابِ مذكراته، وهو الكتابُ الذي جاء في نهاية "كتاب العبر." () كما يشهدُ لذلك عَرْضُه للعلوم وأصنافِها في الباب السادس من المقدمة. وهذا التأكيد على مَوسُوعِيَّة معارفِ ابنِ خَلدون، لا يتعارضُ مع ما يتبادرُ إلى الأذْهَان مِنْ أنَّ ابنَ خَلدون كان في جلّ ما كتَبَهُ مؤرِّخاً، ولم تكن المقدمة التي غمرتْ شهرَتُها الآفاقَ إلا مَقَدِّمَةً لِكِتَابِ (العبر)، وهو كتابٌ في التاريخ.

لكنَّ كثيراً ممّن كتبُوا عن ابن خَلدون وَظَّفُوا رؤيتَهم الجزئيّةَ لفُصُولٍٍ محددةٍ من كتاب المقدمة، أو جوانبَ معينةٍ ممّا عرفوا عنه من سيرة حياته، وأعْمَلُوا فيها البحثَ والمناقشةَ والمقارنةَ، ومارس بعضهم عملياتِ الاستلاب، والتَجْيِير، والإحالةِ إلى فروع العلم المُعَاصِرة، التي تتّسمُ بالتخصُّصِ الدَّقِيقِ والتجزئة الشديدة، ليقرِّرُوا في نهاية المطاف أنَّ ابنِ خَلدون كان عالماً متخصصاً، وفقيهاً متبَحِّراً، ورائداً مؤسساً في التربية، وفي عِلْم النَّفْس، وفي الاقْتِصادِ، وفي السِّيَاسة، وفي غيرها من العلوم المتخصِّصَةِ، فوق أنَّه كان مؤرِّخاً فذاً، ورائداً مؤسساً لعلم الاجتماع، وفيلسوفاً مبدعاً وَضَعَ عِلْم المَنَاهِج، وَصَاغَ نَظَرِيَّةَ المعْرِفة!

وتتكرَّرُ هذه المبالغاتُ كلَّما عُقِد مؤتمرٌ أو نُظِّمت ندوةٌ عن ابن خلدون، كما تتكرَّرُ في دِرَاساتِ الباحثينَ، الذين يُنْجِزُون دراساتِهِمْ في المَيْدَانين: المِهْنِيِّ أو الأكاديميّ.

ولعلّ مراجعة البحوث التي قدمت إلى مهرجان ابن خلدون المنعقد في القاهرة عام 1962 يمثل ذلك خير تمثيل.

فقد جاء في ورقة الأمام محمد أبو زهرة في ذلك المهرجان، ما يُعلي قدر ابن خلدون في الفقه والقضاء، وينوّه بأنه: "قضى نحو أربعة وعشرين عاماً من سنّي نضجه الكامل يتردد بين الفقه والقضاء،" وأنّ في ممارسته القضاء "صفحة ناصعة البياض في تاريخ ابنِ خَلدون، وهي مشرِّفة، تُبَيِّنُ للقُضاةِ أنَّهُم يَمْلِكُون الإصْلاحَ وردَّ الأمورِ إلى نِِصَابِهَا، ولكن لا يستطيعُ ذلك إلا أُولُو العَزْمِ من القُضَاة .. وكان (ابن خلدون) من أعْظَمِ القُضَاةِ الذين رآهم تاريخُ الإنسانية." ()

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير