حصلوه في تلك المدة الزمنية أنَّهم دونوا الأحاديث في الكتب حتى قال البيهقي: ((وهو أنَّ الأحاديث التي قد صحت، أو وقفت بين الصحة والسُّقْم قد دُوّنت وكُتبت في الجوامع التي جمعها أئمة أهل العلم بالحديث، ولا يجوز أنْ يذهب منها شيءٌ على جميعهم، وإن جاز أن تذهب على بعضهم، لضمان صاحب الشريعة حفظها، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم، لم يقبل منه)) (12).
ومن ينظر في كيفية تلقي الصحابة، وحرصهم على ذلك يدرك مدى الاهتمام، ومدى حرص الصحابة على حفظ السنة من الخطأ في الحديث فقد دققوا غاية التدقيق، فهم أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهةً، وإذا سمعوا شيئاً مما لم يسمعوه تثبتوا فيه كما حصل لعمر بن الخطاب، وطلبوا البينة أحياناً مبالغة في التثبت وصيانةً للشرع كما فعل عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري (13) في الاستئذان ثلاثاً، لذا فإنَّهم لم يكونوا يتهاونون في ذلك مع أحدٍ كائناً من كان إذا رفع حديثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قال المستورد بن شداد القرشي عند عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس))، فقال له عمرو: أبصر ما تقول قال: أقول سمعت من رسول صلى الله عليه وسلم ... )) (14).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((إنا كنَّا مرةً إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا)) (15).
وكانوا يرحلون في سماع الحديث حتى إنَّ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رحل شهراً في سماع حديث واحدٍ (16).
ثم سار التابعون على ذلك المنهج ومن بعدهم، حتى قال ابن حبان:
((فرسان هذا العلم الذين حفظوا على المسلمين الدين، وهَدَوْهم إلى الصّراط المستقيم، الذين آثروا قَطْع المفاوِز والقِفار على التنعّم في الديار والأوطْان في طلب السنن في الأمصار، وجمعها بالوجل والأسفار والدَّوران في جميع
الأقطار، حتى إنَّ أحدهم ليرحَلُ في الحديث الواحد الفراسخ البعيدة، وفي الكلمة الواحدة الأيام الكثيرة، لئلا يُدخلَ مُضِلٌّ في السنن شيئاً يُضلُّ به، وإن فعل فهم الذابّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب، والقائمون بنُصْرة
الدين)) (17).
أما تنظيم الكتاب فقد كان الكتاب على ثلاثة أقسام:
القسم التنظيري، والقسم التطبيقي، والفوائد والقواعد الحديثية.
أما القسم الأول: فقد تضمن الكلام على معنى العلة، وأهمية علم
العلل، وثمرته، وتاريخه، وأئمته، والمصنفات فيه، وأسباب وقوع العلة، وطرائق كشف العلة، ومناهج المحدّثين في معرفة العلة، وما تزول به العلة، ومناهج التأليف في علم العلل، وثقافة المعلل.
وأما القسم الثاني: فقد خصصت الكلام فيه على أقسام العلة، ثم الكلام على الأنواع المتفرعة عن تلك الأقسام، والتمثيل لكل نوع من تلك الأنواع بأمثلة عديدة متنوعة، تميزت بدقة التخريج، وتحكيم قواعد أئمة الفن، وتتبع كلامهم على تلك الأحاديث، وخلاصة الحكم، فالإحالة على مصادر التخريج التي تضم جماع الأسانيد والأحكام عند آخر كل حديث.
وأما القسم الثالث: وهو الفوائد والقواعد الحديثية؛ فهو حصيلة مسيرة طويلة في خدمة السنة المشرفة، مطالعةً وتحقيقاً وتخريجاً وتدريساً، وقد ضم قواعد محكمة، وفوائد بديعة في العلل، والجرح والتعديل، والمصطلح، ومناهج أئمة الفن.
ثم ذيلت الكتاب بفهارس متنوعة، لم تكن مطولة كالتي ختمت بها مسند الإمام الشافعي طلباً للاختصار، وقد كانت الفهارس على النحو التالي:
1 - فهرس الآيات.
2 - فهرس الأحاديث.
3 - فهرس الآثار.
4 - فهرس المراسيل.
5 - فهرس الرواة المترجمين.
6 - فهرس أخطاء الرواة.
7 - فهرس الأشعار.
8 - فهرس التصحيفات والتحريفات الواقعة في المطبوعات.
وتلكم الفهارس تذلل صعوبة الكتاب، وتيسر البحث فيه. وفهرسة أخطاء الرواة، لم أسبق إليها فيما أعلم، وهو نافع جداً للباحثين في البحث عن أوهام الرواة وأخطاءهم، وعد الرواة المخطئين (361)، وهذا النوع من الجديد في الكتاب لم يكن لوحده، فهناك كثير من أشباه ذلك الجديد، ومن ذلك أنَّ أهل الحديث فرعوا في مضطرب الإسناد أنواعاً، زدت عليها نوعين مستقلين، تجدهما في موضعهم.
¥