وأرجو أن يكون عملي هذا محققًا لكلمة الإمام أحمد لابنه عبد الله: «احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إمامًا» وهي الكلمة التي رواها ابن الجوزي في مناقب أحمد (ص191) وجعلناها في صدر الكتاب عنوانًا له. فإن الإمام رضي الله عنه توقع أن يكون هذا، ولكنه لم يكن إلا لأفرادٍ أفذاذ معدودين، لا لعامة المحدثين؛ فإذا وفق الله لإتمام هذا العمل تحققت الكلمة وتمت: أن يكون المسند للناس إمامًا.
وقد قال الحافظ الذهبي - فيما رواه عنه الحافظ شمس الدين بن الجزري في كتاب «المصعد الأحمد» -: «فلعل الله تبارك وتعالي أن يقيض لهذا الديوان السامي من يخدمه ويبوب عليه، ويتكلم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتوٍ على أكثر الحديث النبوي، وقَلَّ أن يَثبُت حديثٌ إلا وهو فيه».
وإني أرجو أن تكون دعوة الذهبي أُجيبت بما صنعتُ، وأسأل اللهَ سبحانه الهُدى والسداد، والعصمة والتوفيق.
وما أبغي أن أتمدح بعملي أو أفخر به، ولكني أستطيع أن أقول: إني في بعض ما حققتُ من الأسانيد قد حَلَلْتُ مشاكل، وبينت دقائق، وصححت أخطاء، فاتت على كثيرٍ من أئمة الحديث السابقين، لا تقصيرًا منهم، ولا اجتهادًا مني، ولكن هذا الديوان السامي كما سماه الحافظ الذهبي، كان مفتاحًا لما أغلق، ومنارًا يهتدى به في الظلمات، وكان للناس إمامًا، حين وُفق رجلٌ لخدمته، وحين حُققتْ أحاديثُه تحقيقًا مفصلًا.
وقد يكون في بعض ما ذهبتُ إليه من التحقيق شيءٌ من الخطأ، فما يخلو عمل إنسان غير معصوم من الخطأ، ولكني قد أراه خطأ يهدي إلى كثيرٍ من الصواب، إذ فتح للباحثين باب البحث في دقائق كانت مغلقة، ومشاكل كانت مستعصية.
ولا يظُنن ظانٌّ أني أغلو فيما أقول، فإني أرجو أن يكون عملي خالصًا لوجه الله، وإن كثيرًا من إخواني من علماء السنة والقائمين عليها، في مصر والحجاز والشام، قرؤوا بعض ما كتبت، وأظنهم موافقي على الوصف الذي وصفت، والله الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.
وقدم الشيخ شاكر لهذه الطبعة بثلاث رسائل سماها «طلائع المسند»، هي: «خصائص المسند» لأبي موسي المديني، و «المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد» لابن الجزري، و «ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام» للذهبي.
قلت: قد حاز فضيلة الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله قصب السبق في تحقيق «المسند» وإخراجه في صورة جميلة، فقد رقَّم أحاديثه، وخَرَّج بعضها، وتَكلَّم على أسانيدها، وبَيَّن أحوال كثير من رواتها، وأَوْضَحَ مشكلاتها، وصنع لها فهارس دقيقة، فخرج المسند لأول مرةٍ في حُلةٍ بهية تليق بمكانته العظيمة، وقعَّد من خلال تحقيقه قواعد تطبيقية لتحقيق كتب الحديث المسندة وتوثيقها، فرحمه الله رحمةً واسعةً.
ويُؤخذ على هذه الطبعة عدة أمورٍ:
منها: أنه لم يتوافر لفضيلة الشيخ شاكر من النسخ الخطية إلا ثلاث نسخ خطية، هي: النسخة الكتانية، كما ذكر في مقدمة تحقيقه للمسند (ص12)، ونسخة من الرياض في ثلاث مجلدات، كما ذكر في مقدمة الجزء السابع (ص3)، وهما نسختان متأخرتان، وقطعة فيها مسند أبي هريرة، كما ذكر في مقدمة مسند أبي هريرة (ص81).
ومنها: أن هذه الطبعة لم تكتمل، فقد توفي الشيخ شاكر رحمه الله قبل أن يخراج ثلث المسند، وقد رأيت محاولات لإكمال طبعته، وكلها تقصُر عن عمل الشيخ أحمد شاكر رحمه الله قصورًا بيِّنًا: منها قطعةً يسيرة بتحقيق الدكتور الحسيني عبد المجيد هاشم والدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر. ومنها: طبعة مؤسسة قرطبة في 15 مجلدة، وقد أَكملتْ بقية المسند، وفيها جهدٌ مبذولٌ، ومقابلةٌ على نسخٍ خطيةٍ، وتخريج للأحاديث، لكنها لم تشتهر بين طلبة العلم. ومنها: طبعة دار الحديث بالقاهرة بتحقيق حمزة الزين، مسخ المحقق عمل الشيخ شاكر، ثم أكمل عليه، وهي نسخة رديئة لا شك في ذلك.
ومنها: أنه قد أُخذ على فضيلة الشيخ شاكر رحمه الله اعتباره أن من لم يذكر فيه البخاري في «التاريخ الكبير» ولا ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» جرحًا ولا تعديلًا أنه ثقة عندهما، وبناء على ذلك صحح فضيلة الشيخ بعض الأحاديث التي لم يُسبق إلى تصحيحها.
ومنها: أنه قد أُخذ على فضيلة الشيخ شاكر توثيقه لبعض من لا يستحق التوثيق من الرواة؛ لاعتداده بذكر ابن حبان للراوي في «ثقاته» توثيقًا مطلقًا، ونحو ذلك.
¥