والمقصد الأول من هذا كله تقريب الإفادة من هذا المسند الجليل إلي الناس عامة، وأهل الحديث خاصة. حتى يصلوا إلى ما في السنة النبوية من كنوز قد يعسر عليهم الوصول إليها، في كتاب هو كالأصل لجميع كتب السنة أو لأكثرها. ويعجبني في هذا المعنى كلمة قالها الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1/ 213): «فإني رأيت الكتاب الكثير الإفادة المحكم الإجادة، ربما أريد منه الشيء، فيعمد من يريده إلي إخراجه، فيغمض عنه موضعه، ويذهب بطلبه زمانه، فيتركه وبه حاجة إليه، وافتقار إلي وجوده».
وبينا أنا أطبق القواعد التي ابتكرتها للفهارس على الأحاديث حديثًا حديثًا، كنتُ أجدُ كثيرًا من الأحاديث يشتبه عليَّ إسنادها، وأحتاج فيها إلى مراجعة دواوين الحديث وكتب الرجال، فتارة أراجعها وتارة أدعها. ثم بدا لي أن أقيد ما أراجعه في كراسة خاصة، ففعلت. وكنت أفكر في تتبع أحاديثه كلها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ثم أخش الإقدام على ما قد أعجز عنه، والتعرض لشيء أظنني غير أهل له. ثم كما يقول علماء البلاغة «أقدم رجلًا وأؤخر أخري» وكان معنا في مدينة الزقازيق عاصمة مديرية الشرقية، حين كنت قاضيا بالمحاكم الشرعية فيها، شابٌ من الرجال الصالحين المتقين، هو صديقي الدكتور السيد أحمد أحمد الشريف رحمه الله ... فاستشرته مرارًا في الإقدام على الكلامِ على الأحاديث من جهة الصحةِ والضعف، فكان لا يني أن يرغبني في ذلك، ويحملني على الإقدام عليه، بعد التوكل والاعتماد على الله، حتى شرح الله صدري لهذا العمل، فأقدمت واستعنت بالله، والحمد لله على التوفيق.
ولم ألتزم في الكلام على الأحاديث أن أُخرِّجها كلها، فذلك أمر يطول جدًا. إنما جعلتُ همي ووكدي أن أُبين درجة الحديث، فإن كان صحيحًا ذكرتُ ذلك، وإن كان ضعيفًا بينتُ سبب ضعفه. وإن كان في إسناده رجلٌ مختلفٌ في توثيقه وتضعيفه، اجتهدتُ رأيي على ما وسعه علمي، وذكرتُ ما أَراه. وفي كثير من مثل هذا أُخَرِجُ الحديث بذكر من رواه من أصحاب الكتب الأخرى.
وعن هذا صنعت الفهرس الثاني من الفهارس اللفظية؛ ليكون الكلام على الرجل المُضَعَّفِ أو المُوَثَّقِ أو المُخْتَلَف فيه مرةً واحدةً في الأغلب، فيمكن للقارئ إذا عُرِضَ له في إسنادٍ أن يبحثَ عنه في الفهرس، ثم يرجع إلى ما قلته فيه، وما اخترته درجة له.
ولم أَعْرِضْ في شرحي لشيءٍ من أبحاثِ الفقه والخلاف ونحوهما، فما هذا من عملي في هذا الكتاب، إنما هو عمل المستفيد المستنبط، بعد أن تجتمع له الأحاديث بدلالة الفهرس العلمي. وليس المسند من الكتب المرتبة على الأبواب حتى يستقيمَ هذا لشارحه.
واقتصرتُ في تفسير غريب الحديث على ما تدعو إليه الضرورة جدًا، وعلى ما وجدتُ أصحابَ الغريبِ قد قَصَّرُوا فيه، أو كان لي رأيٌ يخالف ما قالوا، وهو شيءُ قليلٌ نادر.
وأحاديث المسند تتكرر كثيرًا، فيُروى الحديث الواحد بأسانيدٍ متعددة، وألفاظٍ مختلفة أو متقاربة، وبعضها مطول وبعضها مختصر. فرأيت أن أذكر بجوار كل حديث رقم الرواية التي سبقت في معناه أو لفظه. فإن كان مكررًا بنصه أو قريبًا من نصه قلت: «مكرر كذا» وذكرت الرقمَ الذي مضى، وإن كان الآخر أطول من الأول قلت: «مطول كذا» وإن كان أوجز منه قلت: «مختصر كذا».
ولهذا العمل فائدةً أخرى: أن القارئ إذا جاء إلى حديث في معنى من المعاني في آخر مسند صحابي معين، أمكنه بالرجوع إلى الأرقام التي أشير إليها عَوْدًا على بِدْءٍ أن يجمع كل الروايات في ذلك المعنى للصحابي الواحد، دون أن يرجع فيه إلى الفهرس العلمي.
ولجمع الروايات فوائد عند علماء هذا الشأن يدركها كل من عاناها، وأقربُ فوائدها تحقيق المعنى الصحيح للحديث، وتقوية أسانيده بانضمام بعضها إلى بعض.
وقد بذلتُ جهدي في التحقيق والتوثق، وفي العناية بهذه الفهارس التي هي كما سَمَيْتُها «مقاليد الكنوز» فإن يكن صوابًا فإني أحمد الله على توفيقه، وإن يكن خطأً، فما أردتُ إلا الخير، وأستغفر الله.
¥