أما الظاهرة الثانية التي لفتت انتباهي في أغلب فضاءات العرض , فهي غلبة الكتب التراثية التي يعاد طبعها , في موازاة غلبة الكتب التي تتحدث عن الماضي , والأولي مربحة , ولا يتكلف معها الناشر سوي دفع الكتب القديمة إلي المطبعة دون حقوق نشر أو تأليف , فهي بلا صاحب في مدي حقوق الملكية , وهي مشاع , ومنبع لربح خالص يدخل جيب الناشر وقد أصبح بعض الناشرين المختصين في إعادة نشر الكتب التراثية القديمة مليارديرات فعلا لا مجازا لكن السؤال الأهم أي كتب التراث هي التي يقبل الناشرون علي طباعتها وإعادة نشرها؟ إجابة السؤال تتوقف علي نوع الطلب الثقافي من ناحية , واتجاه الناشر الفكري من ناحية ثانية , فضلا عن إمكانات الربح من ناحية أخيرة والملاحظة الأولي هي غلبة التراث الفكري الديني , وتحديدا السلفي , والغالب علي هذا النوع من التراث هو ثقافة الاتباع والتقليد لا ثقافة الابتكار والتجديد , ولا مجال في هذا المجال , إلا علي سبيل الاستثناء الذي لا يكسر القاعدة , فما أقل الموجود من كتب التراث العقلاني أو الفلسفي ,
أو الصوفي وما أكثر المعروض من تراث سلفي ولا أدل علي ذلك من أني لم أجد كتابا واحدا ينتسب إلي تراث المعتزلة أو أشباههم من أصحاب الفرق الإسلامية الذين أعطوا للعقل مكانة خاصة , وكان شعارهم هذا الحديث القدسي أكتبه من الذاكرة بمعناه الذي يقول أول ما خلق الله خلق العقل , فقال له أقبل فأقبل , وأدبر فأدبر قال بعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أعز علي منك , بك أثيب , وبك أعاقب. أعرف أن هناك من يشكك في صحة هذا الحديث القدسي ولكن الدلالة فيه باقية , متصلة بمكانة العقل الذي ميز به الخالق سبحانه وتعالي بين الإنسان والحيوان , وندرة التراث العقلاني أو الإقبال علي إعادة طباعته مسألة موازية لعدم كثرة كتب التراث الصوفي أو غيره من مجالات التراث التي لا يزال الفكر السلفي يناصبها العداء إلي اليوم , ولا أدل علي ذلك من الاستنكار الذي أبداه بعض نواب الإخوان المسلمين , في مجلس الشعب , ضد عقد مؤتمر عن ابن عربي في الأزهر معقل الفكر السلفي فيما يفترض , وذلك بالإضافة إلي قيام دار الكتب المصرية بإعادة طبع كتاب الفتوحات المكية عن طبعة مطبعة بولاق القديمة ,
والحق أن استنكار النائب الإخواني ليس تعبيرا فرديا وإنما هو تمثيل لرأي تيار فكري يسود تدريجيا , ويهيمن علي العقول , وذلك إلي الحد الذي لا يدخل في دائرة الإباحة إلا التراث الذي يوافق عليه ويس
تحسنه الفكر السلفي ولكن لحسن الحظ , فإن هناك دور نشر مهمشة , تجد أن طبع التراث العقلاني والصوفي المقموع مهمة لابد من القيام بها لكسر السطوة المتزايدة للفكر الديني التقليدي المعادي للاختلاف والاجتهاد وحرية الفكر علي السواء
وأتصور أن غلبة الفكر السلفي التقليدي هي التي جعلتني ألاحظ أن أغلب الكتب المتاحة في معرض القاهرة الدولي للكتاب تعالج قضايا الماضي , أو تدور حوله , أو تأتسي به , أو تجعله إطارا مرجعيا أوحد في معالجة مشكلات الحاضر , والنتيجة هي أن النتاج الثقافي العربي , علي نحو ما هو متمثل في أغلب كتب المعرض نتاج متهوس بالماضي , مثقل بهموم الحاضر الذي لا يجاوزه الوعي , ومن ثم ينعدم التفكير في المستقبل , أو يكاد ولا أدل علي ذلك من أنك لو مررت علي أجنحة دور النشر الكبري والصغري فلن يلفت انتباهك كتاب أو كتب عن الدراسات المستقبلية , أو دراسات تتأمل احتمالات المستقبل الذي نسير إليه دون أن نفكر فيه , لأن عقول كتابنا مشغولة بالتطلع إلي الماضي الذي يشدها إلي الوراء , وغارقة في مشكلات الحاضر التي لا تجعلها تنظر إلي أبعد من أقدامها , وهو أمر يؤكد النزعة القدرية الاتكالية السلبية التقليدية التي تتسم بها ثقافة عاجزة متخلفة عن ركب التقدم , وستظل كذلك إلي مدي طويل. < o:p>
ـ[أبو عُمر يونس الأندلسي]ــــــــ[14 - 02 - 09, 06:41 ص]ـ
قال المدعو جابر عصفور