- شغف قلبه صلى الله عليه وسلم بمكه وذكرياتها فكان يقول " والله إنك لأحب بلاد الله إلىّ ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت "، وبعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكانت إذا ذكرت مكه كان يقول " لا تثر أشواقنا ودع القلوب تقر "، وصدق الله العظيم الذى قال فيه " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
فأى إنسان مشرق كان محمد صلى الله عليه وسلم
(2)
محمد صلى الله عليه وسلم
نبى الحرية:
منذ أن أشرق الإسلام على الأرض أعلنها رسوله عالية مدوية:" لا عبودية إلا لله " قال تعالى:"إياك نعبد" (الفاتحة:5).
ويقصر العبودية عليه، جل شأنه وحده انهدمت كل عبودية لغيره، مع انهدامها اطلت هامة الحرية مزهوة شامخة .. فلا عبودية فى العقيدة، ولا إكراه فى التدين، لأن القسر فيها يحولهما إلى الصورية الفارغة، ويحط منهما، ويضر بهما أكثر ما ينفع. قال تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف:29)، وقال تعالى " لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى" (البقرة:256).
ولاعبودية فى الحكم لأنه حكم الله، والحاكم يخضع له كما يخضع له المحكوم، وكل ما بينهما من الفرق تنظيم العمل بين من يصلح للحكم ومن لا يصلح له.
ولاعبودية لسيد بسبب غارة أو اقتناص أو فقر أو شراء، أو غير ذلك مما غذى أسواق الجاهلية بحشود من العبيد والإماء، وعلى مدى أحقاب من الزمان، عاشوا فيها كالبهائم مسخرين للسادة، يستغلونهم كما يشاءون فى العمل، وفى تثمير الأموال وفى المتعة وفى المعارك، وفى كا ما تملى عليهم أهواؤهم بغير اعتراض من المسترفين أو امتناع على سادتهم.
وظل حال الأرقاء على ما هو عليه، لم يعبأ بهم أحد، حتى كان النبى صلى الله عليه وسلم أول من حرر هذه الفئة المنكوبة التى ذهبت ضحية العسف والجور، فألغى جميع أنواع الرق ما عدا سبى الحرب، وشرع سننا لتحسين حال هؤلاء، وأمر بأن يعاملوا كما يعامل الأحرار، حتى صار عبد اليوم ملك الغد ().
وحقاً ما قبل من أن الرق كاد يختفى على يده صلى الله عليه وسلم، فلقد حصر منبع الرق فى مصدر واحد هو (جهاد الشرك)، قم حث على تحرير الأرقاء، وفتح الأبواب له فى: التقرب إلى الله، وفى الكفارات، وفى المكاتبة، وغيرها.
وحرية الفرد- بعد ذلك- واسعة إلى أبعد حدود السعة، فلا حجر على فكر، ولا مصادة لرأى، ولا سلطان على التصرف فى مال، ولا قيد على حركة أو هجرة أو انتقال من مكان إلى مكان، ما دام ذلك بعيداً عن الإضرار بغيره، بل قد يكون الرأى مفروضاً على المسلم، وذلك إذا كان فى إطار التبعة الإسلامية، واتجه إلى التقويم والإصلاح وعلاج الضعف، ورفع لواء الدين.
قال صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم" ()
" أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" ()
فأى إنسان مشرق كان محمد صلى الله عليه وسلم
(3)
محمد صلى الله عليه وسلم
نبى التسامح والرفق والعفو:
كان صلى الله عليه وسلم متسامحاًَ فى كل ما هو من حق نفسه، بل كان فى ذلك المثل الأعلى للتسامح .. يعطى وهو فى أقل القليل من الماء، ويكرم وهو فى غاية الحاجة، وقد يكون من يعطيه كافراً، ويتسامح مع من أساء وقد تكون الإساءة عنيفة بالغة .. روى أنه نزل به رجل من غفار ضيفاً، ولم يكن فى بيته عشاء سوى قليل من لبن عنزة، فحلبها لضيفه وبات ليلته طاوياً ().
ولم ير متسامح قط مع قومه مثله، على ما أصابه من أذى، وعلى ما أصاب أتباعه من نكال استشهد به بعضهم، كسمية أم عمار بن ياسر.
ذلك هو التسامح فى حق نفسه، أم التسامح الدينى الكامل، فلآول مرة فى التاريخ نادى نبى أنه لا إكراه فى الدين، وعمل بمقتضى هذا المبدأ، واحترام الاختلاف فى الرأى، وشجع الاجتهاد فى الدين، وأباح الحرية الدينية. وقد كان الاعتقاد أن كل إنسان مسئول أمام الله وحده عن عقيدته الدينية أمراً لا عهد للناس به حتى ذلك الوقت، والتاريخ حافل بذكر الحروب والاضطهادات، والعالم كان- ولا يزال- مسرحاً لأسوأ ضروب الاضطهاد من جراء التعصب الدينى .. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم يقرر أن كل إنسان مسئول أمام الله وحده عن معتقداته الدينية، وليس لإنسان الحق فى أن يحقق معه، أو يضطهده بسبب ما انعقدت عليه سريرته، ثم يحرم الاضطهاد الدينى، فيقرر أن الإنسان لا يعاقب فى الدنيا على عدم إيمانه أو خطأ
¥