والدروس فلقي ترحيباً من علمائها، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في
إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية. ثم عاد إلى تونس لمزاولة التدريس. واشترك في
مناظرة للتدريس من الدرجة الأولى، فحرم من النجاح فحز ذلك في نفسه لسيطرة
روح المحاباة على الحياة العلمية في بلده.
وفي عام 1329 وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب، ولاسيما فرنسا، فيمم
وجهه صوب الشرق، وزار كثيراً من بلدانه، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه
الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال. ثم عاد لتونس فلم يطب له
المقام والمستعمر من ورائه.
المرحلة الثانية: عدم الاستقرار:
وصل دمشق عام 1330 مع أسرته ومن ضمنها أخواه العالمان المكي وزين
العابدين، فعين الشيخ (محمد الخضر حسين) مدرساً بالمدرسة السلطانية، وألقى في
جامع بني أمية دروساً قدّره العلماء عليها، وتوثقت بينه وبين علماء الشام الصلة
وبخاصة الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، ولما كانت آنذاك سكة الحديد الحجازية
سالكة إلى المدينة المنورة زار المسجد النبوي عام 1331 وله في هذه الرحلة قصيدة
مطلعها:
أحييك والآماق ترسل مدمعاً كأني أحدو بالسلام مودعاً
وفي هذه الفترة شده الحنين إلى تونس الخضراء، فزارها وله في ديوانه
ذكريات في الصفحات 26، 134.
وكان الشيخ دائماً ما يدعو للإخاء بين العرب وإخوانهم الأتراك حينما بدأت
النعرة القومية تفرقهم. وقد ذهب إلى الآستانة، ولقي وزير الحربية (أنور باشا)
فاختير محرراً للقلم العربي هناك فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع
المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة
الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع):
أدمى فؤادي أن أرى ال أقلام ترسف في قيود
وأرى سياسة أمتي في قبضة الخصم العنيد
وفي عام 1333 هـ أرسله (أنور باشا) إلى برلين في مهمة رسمية، ولعلها
للمشاركة في بث الدعاية في صفوف المغاربة والتونسيين داخل الجيش الفرنسي
والأسرى في ألمانيا لحملهم على النضال ضد فرنسا، أو التطوع في الحركات
الجهادية. وظل هناك تسعة أشهر أتقن فيها اللغة الألمانية وقام بمهمته أحسن قيام،
وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه، لما فيه من الحث على
العلم والجد والسمو. نجدها مفرقة في كتبه ففي كتاب (الهداية الإسلامية)
ص155، 164، 175، وفي كتابه (دراسات في الشريعة) ص 135، ولما
عاد للآستانة وجد خاله قد مات فضاقت به البلد، وعاد إلى دمشق، فاعتقله (جمال
باشا) عام 1334 بتهمة علمه بالحركات السرية المعادية للأتراك، ومكث في السجن
سنة وأربعة أشهر برئت بعدها ساحته، وأطلق سراحه فعاد للآستانة فأرسل في
مهمة أخرى لألمانيا. ثم عاد إلى دمشق، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي:
(المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية) ثم نزح عن دمشق
التي أحبها حينما أصدر ضده حكم غيابي بالإعدام - لما قام به ضد فرنسا من
نشاطات في رحلاته لأوربا - وذلك بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى سورية،
وكان أمله أن يعود إلى تونس، ولكن إرادة الله شاءت أن تكون مصر هي مطافه
الأخير، وبهذا تتم المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة: مصر:
وقد وصلها عام 1339 فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم
بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة
والتحرير، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه.
فساعده وتوطدت العلاقة بينهما. ثم كسبته دار الكتب المصرية. مع نشاطه في
الدروس والمحاضرات وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه،
فاعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في
كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة، وفي عام 1344 أصدر كتاب
(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما
افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة، وفي عام
1345 أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما
زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم.
وفي عام 1346 هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفسها
¥