تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[علماء وأمناء - د. فيصل بن سعود الحليبي (منقول)]

ـ[طويلب علم صغير]ــــــــ[06 - 12 - 04, 11:21 م]ـ

علماء وأمناء

د. فيصل بن سعود الحليبي

23/ 10/1425

06/ 12/2004

من بين ملايين القلوب تتميز قلوب، يسخِّر الله لها من يكتشف أن لها حياة ليست كحياة الآخرين، فيرعاها بالبذر الطيب والسقي الهنيء، حتى إذا ذاقت طعم العلم، وأحسّت بإشراقة نوره، وتنعّمت بنعيم سعادته، أقبلت عليه كخيل عادية، لا تلوي على شيء سواه، نهمة تشعر بعطش شديد لا يروي ظمأها إلا المزيد من معارفه وأسراره، أولئك هم العلماء، ورثة الأنبياء كما وصفهم النبي فقال: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

إنه عمر مديد، قضاه غيرهم في المتع والملذات، وقضوه بين أوراق الكتب والمحابر، وأفناه غيرهم في التجارة واللهو، وقضوه في صفوف الحلق أمام المشايخ وأهل العلم، حتى رست سفينتهم على سواحل العطاء، فما توقفت لهم همة، ولا لانت لهم عزيمة، بل تحوّلت سنوات طلبهم إلى تضحيات بالوقت والصحة والمال، يبذلون ذلك كله بنفس راضية سخية رفيقة لكل طالب أو سائل.

غير أن العلم أمانة، وأداء الأمانة إيمان، والإيمان محل امتحان وفتنة، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). [العنكبوت:2].

ولم يكن العالم الحق إلا مبتلى، تغدو عليه الابتلاءات وتروح، وإنها لقنطرة خطرة يجتازها من صَدَق، ويخيب فيها الكاذبون!!

قلة المال .. وطأة المرض .. وجور السلطان .. وإلحاح العامة والجهال .. هذا نزر من الفتن، وإن بدا قليلاً إلا أن له لسعاً كلسع العقارب لا سيما على قلبٍ عاش في ظلال العلم وأكناف الدروس.

أما قلة المال، فما أجمل حديث ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ عن فتنته على العلماء حيث قال: "رأيت نفرًا ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم، صبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل ورذيلته، وطلبًا للعلم وفضيلته، فلما نال منه طرفًا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا ومن لا علم له إلا بالعاجل، ضاق به معاشُه أو قلَّ ما ينشده من حظوظ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكّاس وغيرهم.

فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة التي سهرت لأجلها، وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت عدت إلى أسفل سافلين؟ أ فما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال؟ ولا معك يسيرٌ من العلم يسير بك عن مناخ الهوى؟ ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء؟

على أنه يبينُ لي أن سهرك وتعبك كأنهما لنيل الدنيا!! " صيد الخاطر: 157.

وأما وطأة المرض، فما كان لهم بال أن يعطوا لأجسامهم راحتها لكي تنفك من أوصابها، بل إنهم يتقلدون قول الإمام يحيى بن أبي كثير ـ رحمه الله ـ: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم".

وإنك لتشعر بوضوح أن المرض أو حتى الإعاقة الدائمة لا يعنيان للعالم الرباني إلا مزيدًا من الطموح وعلو الهمة واستنفاد القوة، قال إسماعيل بن أمية ـ رحمه الله ـ: " كان عطاء بن أبي رباح يطيل الصمت، فإذا تكلم خيّل إلينا أنه مؤيد ـ أي من الله ـ، وكان أسود، أعور، أفطس، أشلَّ، أعرج، ثم عَمِي! ففي جسمه ستة عيوب، ولكنه كان ركنًا من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة،وكان ثقة فقيهًا،حجّ نيّفًا ـأي زيادة ـ على سبعين حجة". تاريخ الإسلام للذهبي 4/ 279.

ولقد ضرب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ مثالاً رائعًا في تجاوز بلاء المرض، حتى جعل الله منه أنموذجًا معاصرًا للعالم القدوة، فمع عمى بصره، إلا أنه كان نافذ البصيرة، لا يكل من العطاء، ولا يمل من كثرة السؤال، ولا تزيده سفاهة السائلين إلا أناة ورفقاً بهم، دؤوب العمل، تشغله محن المسلمين، وتفرحه انتصاراتهم.

أما جور السلطان، فليس لتجاوز فتنته سبيل لدى العالم إلا كلمة الحق كما قال النبي:

"إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر"ٍ رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير