الله تعالى وتقواه، وإظهار نعمته بتوسعة المسلمين على أنفسهم وعلى الفقراء
والمساكين في أيام العيد التي هي أيام ضيافة الله للمؤمنين، وهي من مناسك الحج؛
لأنها إحياء لسنة إبراهيم وتذكر لنعمة الله عليه وعلى الناس بفداء ولده إسماعيل من
الذبح الذي ابتلاه الله واختبره به؛ لتظهر قوة إيمانه بالله تعالى وإيثاره لرضاه.
ونعمة الله بذلك على الناس كافة إنما هي من حيث إن إسماعيل هو جد محمد صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى خاتمًا لرسله وهاديًا للناس كافة.
قال تعالى في البدن التي تنحر للنسك في:] فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [(الحج: 36) وقال في ذبائح النسك عامة:] لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم [(الحج: 37) الآية.
وأما دفن لحومها في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الحجاج وقلت معرفتهم
ومعرفة حكامهم بأحكام الدين وحكمه، فليس من الدين في شيء، وإنما هو من
الجهل بأمر الدين والدنيا. ولو كان للحجاز حكومة عاقلة رشيدة لعرفت كيف تحفظ
ما زاد عن حاجة الناس من تلك اللحوم بجعل بعضها قديدًا، وبعضها مقليًّا من النوع
الذي يقال له (قاورمه) ولأفاضت منها على فقراء الحرم طول سنتهم، وها نحن
أولاء نرى الأمم العالمة التي تعرف كيف تستفيد من جميع نعم الله تعالى تنقل اللحم
الغريض والسمك الطري من قطر إلى قطر، حتى إن الغنم تذبح في استرالية ويباع
لحمها في مصر من شمالي إفريقية وفي شمال أوربة أيضا، ونحن قد جعلنا حسنات
ديننا سيئات بسوء تصرفنا، فصرنا حجة عليه في نظر الأمم كلها، وهو حجة
علينا عند الله تعالى.
وإذا جاز أن تترك هذه الذبائح وينفق ثمنها فيما ذكر السائل فمن يضمن أن
يقوم الناس بذلك؟ كلا إن هذا شعار لا يقوم غيره مقامه، ولو كان للمسلمين من
الاهتمام بعمران الحرمين وخدمة الحجاج ما أشار إليه لما توقف قيامهم به على
تركهم لهذا النوع من النسك؟
فإن كان في الأنعام التي تذبح هنالك ما يضر لحمه الآكلين، وعرف ذلك
بشهادة الأطباء والعارفين، فالواجب على الحكومة أن تمنع دخول هذا النوع الضار
حتى لا يسوق الناس إلى الحرم من الغنم وغيرها من النعم إلا كل صحيح لا يخشى
منه ضرر.
* * *
العَلَمَان وحكمة حدود عرفة
إذا كان من أركان الحج الوقوف بعرفة وجب أن يكون لعرفة حدود معينة،
وإلا بطل معنى فرضية الوقوف فيها، وهكذا كل عبادة اعتبر في فرضيتها مكان أو
زمان كالطواف والسعي بين الصفا والمروة وصيام رمضان وكون الصيام من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، لا تحصل العبادة لمن خرج عن الحد المكاني أو
الزماني، وأما مسألة القبول فهي شيء آخر: ما كل من أتى بأعمال العبادة الظاهرة
نجزم بأن عمله مقبول عند الله تعالى، إذ يجوز أن يكون مرائيًا بعمله غير مخلص
فيه، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين، ولكن المخلص إذا لم يأت بالعمل الذي
فرضه الله تعالى كما فرضه تعالى بحدوده من زمان ومكان، فلا مجال للقول بأن
عمله مقبول؛ لأن العمل لم يوجد، فمن سعى إلى الحج ولم يدرك الوقوف بعرفة
وراء العَلَمَين اللَّذيْن هما أول حد عرفة لم يدرك الحج حتى يبحث في قبول حجه
وعدم قبوله، ومثله مثل من سعى إلى صلاة الجمعة ولم يدرك ركعة منها مع الإمام
لا يقال: إن جمعته مقبولة أو غير مقبولة؛ لأنه لا جمعة له، وإن سعى إليها من
أول النهار مخلصًا لله في ذلك، ولكن الله لا يضيع أجر من سعى إلى الحج أو
الجمعة أو غيرهما من العبادات مع الإخلاص فيثيبه على ذلك وإن لم يسقط عنه
الفرض، وكان لا بد في الجمعة من صلاة الظهر في الحج من أدائه تامًّا في ميقاته.
وقد علم مما ذكرنا أن العَلَمَين حدٌّ لعرفة لا حَدٌّ بين الله والناس، ولا بين الجنة
والنار.
* * *
ترك بعض العلماء لفريضة الحج
الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً، وهو على التراخي لا الفور إذا
وُجِدَ العذرُ، والخلاف في المسألة مشهور، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا في آخر سنة من عمره، ولكنه اعتمر قبل ذلك. ومن ترك الحج وهو
يستطيع السبيل إليه حتى مات، مات عاصيًا لله تعالى. ولا يقتدى به ولا يعد تركه
¥