فإذا أردنا مناقشة التعدّديّة المذهبية أو العقائدية في السعودية، يجب أولاً أن نعترف بوجود قدر منها؛ لأن مجرد بقاء أصحاب تلك المذاهب والعقائد هذا وحده يدل على وجود قدر من التعايش والتعامل، وأن التعدّديّة في السعودية لم تصل إلى حد رفضها تماماً، كما حصل في محاكم التفتيش النصرانية في أسبانيا، فإن هذا الحد من الرفض وعدم التسامح الديني لا يدعي أحد أنه وقع في السعودية، ولا قريباً منه، ولا ادعته الكاتبة نفسها، ولا يستطيع أن يدعيه أحد لمناقضته للواقع الماثل للعيان.
وأنا إنما أهبط إلى هذا الحدّ من التنازل لإثبات أن هناك قدرًا ما من التعدّديّة ما زال ولم يزل موجودًا في السعودية، لأقول بعد ذلك: إن هذا القدر قد يراه البعض غير كافٍ وغير متسامح، وقد يراه آخرون كافيًا متسامحًا، ويراه أيضاً آخرون مبالغًا فيه إلى حدّ الإساءة إلى حريته الدينية؛ لأنه يرى في دينه ما يعارض بعض مظاهر تلك التعدّديّة.
فإذا ما انحصر الخلاف في قدر ذلك التعايش، وفي تلك التعدّديّة الموجودة: هل وصلت حد التسامح المطلوب؟ أم لم تصل إليه؟ أم بالغت في تطبيقه؟ فالمرجع في معرفة الجواب الصحيح على هذه الأسئلة المختلفة التوجهات، هو الإسلام، الذي رضيه الجميع مرجعًا لتصوراته عن التعدّديّة المذهبية والتسامح الديني؛ كما سبق أن اتفقنا عليه؛ لأنه هو الحل الوحيد الذي لا يرفضه المجتمع المسلم، بل يقبله ويريده.
فإن وصلنا إلى هذا الحد من النقاش، أمكننا أن نحاكم ذلك القدر من التعدّديّة والتعايش الموجود حاليًا في السعودية إلى نصوص الكتاب والسنة، مبيِّنين تصورَنا عن التسامح المذهبي والعقائدي الذي يقرُّه الإسلام، وعن الانفلات الذي يرفضه الإسلام؛ لأنه يهدّد الإسلام بالذوبان والفناء التدريجي، إذا ما رضيناه منهجًا للتعددية الدينية والعقائدية.
ومن هنا نعلم: أن أيّ دعوة مطلقة للتعددية والتسامح، لا تضع تصوّرًا واضحًا لها، لا تعدو أن تكون شعارات سطحية، لا تلج إلى لبِّ المسألة، ولا تناقش حقيقة الخلاف. ولذلك فإن مثل هذه الدعوة المطلقة لا تستحقُّ الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة؛ لأنها طريقة أنضجها التاريخ السياسي حتى أحرقها، وأصبحت لعبة مكشوفة لدى العقلاء: أن المطالبة بالباطل لابد أن تكون بشعارات الحق، التي يحتفظ أصحاب الباطل بحق تفسيرها وقتما يجدون الفرصة سانحة لذلك. ولقد أعلنها جدّي علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قبل ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين سنة، عن مثل هذه الشعارات، عندما قال عنها: " كلمة حق أريد بها باطل " [صحيح مسلم 2/ 749].
فما أقدمها من أسلوب لأهل الباطل!
وما أعظم غفلة من ينخدع بها!!!
ولذلك قلت: إن المطالبة بالتعدّديّة المذهبية والتسامح الديني دون ضوابط أو تصورات، لا تستحق الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة، خاصة في هذا الوقت، الذي لم يعد الأمر فيه خافيًا، أن هناك مخططًا أمريكيًا للتلاعب بالمنطقة، لكي تحقق المنطقة مصالح أمريكا، على حساب الأمة ودينها ومقدراتها.
هذا ما يتعلق بالمغالطة التي جاءت في عرض كتاب الكاتبة ميّ يماني، أما ما يتعلق بالمخالفة للتاريخ: فهو ما أوهمت الكاتبة أنه كان موجودًا في الحجاز إبّان حكم الأشراف لها، وهو ذلك التنوّع والتسامح الذي أطلقته الكاتبة دون معالم له ولا حدود.
والكاتبة –حسب العرض المنشور- تتحدّث عن تنوّع وتعددية خيالية، لأنها لم تحدّد معالمها (كما سبق). فإثبات وجود ما تقصده أو نفيُهُ غير ممكن، حتى نعرف تصوّرها عن التعدّديّة التي تدّعي أنها كانت موجودة في الحجاز، وحتى نعرف الفرق بينها وبين الموجود اليوم فيها.
وأنا إذ أتكلم عن الحجاز وتاريخها، فأنا ابن تاريخها، وأقولها كلمة حق عن تاريخها: إن الحجاز – كغيرها من مناطق العالم الإسلامي- قد مرّت بمراحل مختلفة، بالنسبة لتحقق التسامح الديني والمذهبي فيها، بحسب الظروف الدينية والسياسية والعلمية التي تمر بها.
فمثلاً: في الفترة التي كانت فيها الحجاز تُعدُّ ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وبما أن الدولة العثمانية كانت تتبنى مذهبًا صوفيًا متطرّفا في الغالب، كانت الدعوة السلفيّة في الحجاز وغيرها من ولايات الدولة العثمانية محارَبةً بقوّة وبغير تسامح.
¥