سابعاً: أن حصر الكفر في الاستحلال، قد لا يلزم حتى على مذهبهم وذلك لأن كلمة " الاستحلال " لا تدل على اعتقاد حل محرم , إلا بحسب الاصطلاح، أما في اللغة بل وفي كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذي لا يعبؤ بالتحريم ولا يبالي به، كما قال ?: " يستحلون الحر والحرير " فإذا احتاج المصطلح إلى قيد ليدل على المراد فكذلك يحتاج إلى النصوص الأخرى , فهذا اللفظ الذي لا يدل على الكفر بذاته كيف يجعلونه هو وحده مناط الكفر المناقض للإيمان دون لا سواه، ويعدلون عما ورد صريحاً في الشك والنفاق والاستكبار والإعراض والتولي نحوها مما في الكتاب والسنة.
توضيح عبارة أهل السنة " ولا نكفر أحدا حتى يستحله " ص721:
وضموا – المرجئة- إلى ذلك الاستدلال بمقولة أهل السنة: " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله " على إطلاقها فاستنتجوا من ذلك كله أن من كفّر أحداً بترك ما تركُه كفرٌ أو فعل ما فعله كفرٌ وهو غير مستحل لذلك، خرج عن قاعدة أهل السنة هذه، ووقع في مذهب الخوارج أو بعضه!! وهذا خطأ بيّن لا يخفى على من أطلع على ما سبق، ونزيد هنا فيما يتعلق بهذه العبارة فنقول:
1ـ الاستحلال عند أهل السنة والجماعة إنما متعلقه بالذنوب التي دون الشرك أو الكفر كما سبق , ولذلك يذكرون هذه العبارة في باب الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالكبائر العملية التي هي جنس المعاصي كالزنا وشرب الخمر كما هو معلوم، ولو كان جنس ارتكاب المكفر من جنس فعل المعصية، وكان لا بد كل من ورد فيه أنه كافر أن يقيد بالمستحيل أو الجاحد مطلقاً كما يقولون لجاز أن نقول: " الزاني كافر " و" شارب الخمر كافر " بإطلاق , فإذا اعترضوا علينا قلنا إنما نعني به المستحل أو الجاحد , كما تقولون تارك الصلاة كافر , والحاكم بغير ما أنزل الله كافر , وتعنون المستحل أو الجاحد، والحق أن الإطلاق في الكل باطل؛ كما وأن التقييد في الكل باطل , وأن الحق في اتباع النصوص.
2ـ أن العبارة نفسها لا تدل على مرادهم بإطلاق فإن فيها التقييد بكلمة " أهل القبلة " ومعلوم أن من ترك الصلاة التي هي رأس العمل الظاهر، بل من كَفَر بأي مُكفِر كان لا يسمى عندهم من أهل القبلة.
3ـ أن العبارة فيها إطلاق تنبه أهل السنة له وإن اشتبه الأمر بعضهم، ولهذا تكلموا في تقييدها بما بدفع اللبس ويزيل الإشكال، مثل أن تصبح " ولا نكفر أحدً من أهل القبلة بكل ذنب مالم يستحله " وفي نظري أن قولنا: "ولا نكفر أحدً من أهل القبلة بكل ذنب مالم يستحلة " أوضح في المراد، وإن كانت تلك أجود في العبارة، كما أن هذه تزيل الإشكال الناشئ من كون الذنوب الاعتقادية قد تدخل في الصيغة الأولى وهي لايقال: يكفر صاحبها بالاستحلال بل يقال: يكفر بالرد والإنكار , فتأمل.
4ـ أن أهل السنة والجماعة متبعون لنصوص الشرع في كل شيء، فما جعله الشرع كفرا بإطلاق فهو عندهم كفر بإطلاق، كمن ترك الصلاة أو تعاطى السحر أو حكم بشرع غير ما أنزل الله، وسموا فاعله كافراً بإطلاق وما جعله من جنس المعصية لكن سماه كفراً سموه كفراً كذلك ولم يكفروا فاعله، بل جعلوه مرتكبا لعمل من أعمال الكفر، وشعبه من شعبه , كقتال المسلم الوارد فى الحديث.
ثم قال المؤلف: ومن نفي عنه الإيمان بفعل ما هو من جنس المعصية ينفون عنه الإيمان لكن لا يخرجونه من الإسلام، وهذا هو معني قولهم: " نثبت له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق " وذلك كما ورد في حديث: " لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... " الخ.
ومن ارتكب ذنبا لم يجعله الشرع كفرا بإطلاق فهو مرتكب الكبيرة الذي وقع الخلاف فيه قديما بينهم وبين الخوارج، وحكمه عندهم في الآخرة أنه إن لم يقم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ونحوها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ولهذا فهم يجزمون بأن بعض أهل الكبائر سيدخلون النار، وأن بعضهم لن يدخلها، كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة في هذه المسألة، كل ذلك باتباع مطرد للنصوص، وجمع متسق بينها وفق منهج منضبط لا خلل فيه ولا اضطراب، فلو قائل قائل من أهل السنة: " ولا نكفر أحدا بذنب ما لم يستحله " وجب حمله على هذه الأصول وفهمه وفق ذلك المنهج.
لماذا قال أهل السنة عبارة "لا نكفر أحدا بذنب مالم يستحله " ص724:
ولما كان الخوارج والمعتزلة ينبزون أهل السنة والجماعة بالإرجاء، وكان المرجئة ينبزونهم بالخروج، بينوا الفوارق بينهم وبين كل من الطائفتين، ومن ذلك أنهم يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المكفرات ولو كانت أعمالا أو تركا للعمل فليسوا إذن مرجئة.
ولا يكفرون من ارتكب ما هو جنس المعاصي ما لم يستحل ذلك فليسوا إذن خوارج، فمن هنا جاءت هذه العبارة , فتوسيع مفهومها، أو وضعها في غير موضعها غير مقبول.
حكم تارك الأركان الأربعة وسائر عمل الجوارح ص656:
وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة، وسائر عمل الجوارح كفر ظاهرا وباطنا؛ لأنه ترك جنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، وهذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر " أ. هـ
وبهذا انتهت الفهرسة الرابعة لكتاب ظاهرة الإرجاء وهي خاصة بمسائل في باب التكفير
أسأل الله النفع فيها.