أن المجمل ليس له ظاهر يمكن العمل به فلا يلزم من تأخير بيانه إيقاع المكلف في اعتقاد الخطأ، وأما العام الذي أريد به الخصوص، والمطلق الذي أريد به المقيد، فلو أخر البيان لأدى ذلك إلى اعتقاد ما ليس مرادا لله تعالى، ولذا جاز تأخير بيان المجمل دون غيره.
ويمكن أن يناقش هذا، بمثل ما نوقش به استدلال القول الثاني، وهو أن اعتقاد العموم في العام المخصوص أو الإطلاق في المطلق المراد به المقيد لا ينبغي أن يقع من المكلف؛ إذ الواجب أن يعتقد أنه عام محتمل للتخصيص، أو مطلق محتمل للتقييد، لا أن يجزم بكونهما على العموم أو الإطلاق.
وأما العمل فلو حضر وقته قبل التخصيص والتقييد علم أن العموم والإطلاق مرادان.
وبهذا يتبين رجحان القول الأول، وهو مذهب الجمهور.
التخريج على قاعدة تأخير البيان:
قاعدة تأخير البيان ذات شقين، كما أسلفنا:
الأول: عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الثاني: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
فأما الشق الأول فهو محل وفاق، وقد خرجوا عليه قواعد كثيرة، من أهمها:
1 ـ حجية تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه وعلم به، ولهذا عدوا من أقسام السنة السنة التقريرية، وهي باب واسع من أبواب الاستدلال بالسكوت، أو ترك التفصيل والبيان، ومبناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له شرعا أن يسكت عن بيان الحق عند الحاجة إليه، والفروع التي استدلوا لها بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى.
2 ـ رتب الشافعي على ذلك قاعدة من قواعد العموم، ونصها:
ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال.
والمقصود بها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه فأفتى فيها من غير استفصال من السائل دل ذلك على أن حكم جميع الأوجه واحد.
3 ـ إجراء العام على عمومه، والمطلق على إطلاقه إذا حضر وقت العمل، ولم يبين الشرع للأمة تخصيص ذلك العام أو تقييد المطلق.
ويمكن أن يعبر عن هذا بأن الأصل إجراء العام على عمومه والمطلق على إطلاقه.
وقد خرجوا على ذلك ما لا يحصى من المسائل الأصولية والفرعية، والمتتبع لاستدلال الأصوليين والفقهاء يجد أنهم يعولون على هذه القاعدة كثيرا.
وأما الشق الثاني من القاعدة وهو المختلف فيه فقد انبنى على الخلاف فيه اختلاف في مسائل أصولية مهمة، ولكن الذين رتبوا تلك المسائل على هذا الخلاف قلة من الأصوليين، وأهم هذه المسائل هي:
الخاص المتأخر عن العام هل يعد مخصصا أو ناسخا لما يقابله من أفراد العام؟
فالحنفية منعوا تأخير البيان ورتبوا على ذلك أن الدليل الخاص المتأخر عن العام زمنا يمكن فيه العمل بالعام يعد ناسخا لا مخصصا، وعلى ذلك يشترط فيه ما يشترط في الناسخ. ومعلوم أن خبر الآحاد لا يصلح ناسخا للقرآن عند الأكثر، فلو كان الخاص خبر آحاد متأخرا لم يجز العمل به عندهم؛ لأنه لا يصلح مخصصا ولا ناسخا.
والجمهور أجازوا تأخير البيان إلى وقت الحاجة، و لهذا أجازوا أن يكون الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم، ما لم يعمل بالعام في عمومه، فإن عمل بالعام في عمومه عد الخاص المتأخر ناسخا واشترط فيه ما يشترط في الناسخ.
وهذه المسألة يبحثها أكثر الأصوليين بحثا مستقلا، عند الكلام عن التخصيص وشروط المخصص، فيذكر أن الحنفية يشترطون في المخصص أن يكون مستقلا مقارنا، ومعنى قولهم: (مقارنا) أي: غير متأخر عن العام زمنا يكفي لإيقاع الفعل فيه.
ـ[منير الجزائري]ــــــــ[27 - 01 - 09, 04:31 ص]ـ
بارك الله فيكم وفي جهودكم