وأما ثانيًا، فلأنَّ بِنتَه "أسماء" التي كانتْ من قبلُ طفلةً لا تَعي من أمور الدنيا غيرَ لعبها ولَهْوها البريء، قد صارت الآن فتاةً في ربيع شبابها، قد نضجتْ آمالُها، واكتملتْ تطلُّعاتها، فكيف يقتلعُ هذا الكيان الغضَّ من جذوره الراسخة في أرض الإسلام؛ ليرميه في أحضان هذه الحضارة العجيبة التي تَفْغَرُ فاها، فتلْتَهم كلَّ ضيفٍ يحلُّ عليها، ثم تَلْفِظه بعد أن تعيدَ عَجْنَه بلُعَابها؟!
أجالتْ "أسماء" بصرَها في المدينة من حولها؛ من خلال زجاج السيَّارة، وشرعتْ تُراجِع بعضَ ما عَلِق بذاكرتها عن هذه المدينة التي شَهِدتْ أُوْلَى خُطواتها في الحياة.
تذكَّرتْ مُدرِّستَها المتلفِّعة بِدثار البراءة والطُّهْر؛ حيث الألعاب البريئة، والدروس الجادَّة المفيدة، والتنافُس المشروع على أرْفَع الدرجات، وحيث الأساتذة الموقَّرون يَفرضون على مَن حولهم جَوًّا من الاحترام والهَيْبة.
تذكَّرتِ المسجد المحاذي لبيْتهم؛ حيث يُرفع - خَمس مرات في اليوم والليلة - ذلك النداء العُلوي الخالد، يصدحُ بتوحيد الخالق وتعظيمه، ويجهرُ بتقرير الرسالة المحمديَّة السَّمْحة، فيخترق عنانَ السماء، وينتشرُ في أنحاء الأرض، ويعمُّ الناس بأَريجه الطاهر.
تذكَّرتْ أرسالَ المصلِّين، وهم يتوجَّهون - في رمضان وفي غيره - إلى ذلك المسجد، يُلبُّون داعي الفلاح في ثَباتٍ وسكينة، تحدوهم لذَّةُ طلب المغفرة، ويجرُّهم البحثُ عن الرضوان، والنعيم المقيم.
تذكَّرتْ دار القرآن التي كانت ترتادُها مرة أو مرتين كلَّ أسبوع، تُلقي على أُذُنَي أستاذتها البشوش الحازمة ما أَوْكَتْ عليه صدرَها من آيات الفرقان، فتصحِّح لها ما أخطأتْ فيه، وتشجعُها على المثابَرة على الطريق، وحثِّ الخُطى في السير عليها، وتبشرُها بما ينتظرها عند الوصول المرقوب.
وتذكرتْ أصوات التاليات ترتفعُ من الحناجر الغضَّة، فتترعُ فضاء الدار بسِحْرٍ مِن عَبقها الفوَّاح.
تذكرتْ جيرانَها وهم يتشاورون في مصالح الحي، ويتجاذبون أطرافَ الحديث فيما يَجِدُّ من أمور البيوت وأهلها، فإذا أُخبروا بواحدٍ منهم وقَعَ في حاجة، أو انْشَغَلَ بموت قريبٍ له، أو وليمة زواج أو نسيكة ولدٍ، إذا بهم يتسابقون إلى العَطاء، وينضُّون بالبذل بقلوبٍ مرتاحة، ووجوه مستبشرة، لا يعيش الواحد منهم إلا من حيث هو عضو في جماعة حَيِّه، يشاركها أفراحَها وأتراحَها؛ ولا يستسيغ الواحد منهم أن يغلقَ عليه بابَ داره، ويصمَّ أُذنَه عمَّا يَهْتَمُّ له جارُه وينصَبُ.
تذكرتْ عائلتَها الكبيرة، حين تجتمع أيام الأعياد والعُطَل، تختلطُ فيها ابتساماتُ جيل الجدود بحوارات جيل الآباء، بألعاب جيل الأحفاد، يوقِّر الصغيرُ الكبير، ويحدبُ الكبيرُ على الصغير.
وتذكرتْ صاحباتها، آه من ذِكْرى صاحباتها، وآه من فِراق صاحباتها!
مسحتْ "أسماء" خلسة دمعة جادتْ بها عينُها، وقد أخفتْ نصف وجْهها في مُحاذاة نافذة السيَّارة، فتكوَّنتْ من أنفاسها الحرَّى فوق الزجاج الصقيل طبقةٌ حجبتْ عنها الرؤية، كما تحجِبُ الغيومُ زُرقة السماء، وكما يسترُ الغموضُ الكثيفُ سحنةَ المستقبل الآتي.
أأتركُ هذا كلَّه؟ أتسمحُ نفسي بالعيش بعيدًا عن وطني وأحبابي؟ ألن ينفطرَ قلبي حين يَفقدُ أسبابَ بقائه؟ ألن يضيع فِكري بين خَيَالات الماضي، وآلام الواقع؟ ألن ... ؟
وتقفز "أسماء" مِن مقعدها، حين ينتزعُها صوتُ أبيها القادم من بعيد من أفكارها:
ها قد وصلْنا إلى المطار.
وانشغلتْ "أسماء" عن أفكارها السوداء، وحُزنها الممض بإجراءات الدخول وتفصيلات الركوب.
لكن ما أنْ أقلعتِ الطائرة نحو وِجْهتها البعيدة، حتى شعرتْ أسماء بقلبها يُنتزعُ من صدْرها، كما انْتُزعتْ عجلات الطائرة من فوق أرض الوطن، وهو يخفقُ خَفقان العصفور الجريح الواقع في فخِّ الصياد.
وألقتْ أسماء نظرةَ وداعٍ من النافذة على وطنها المتنائي، وأحسَّت بحُبِّه يكبرُ في قلبها بمقدار ما كان حَجْمه يتضاءَلُ في عَينها، وهي تبتعد عنه.
¥