نزلت الطائرة بعد نحو الساعتين من الزمان، هي كلُّ ما يفصِلُ بين إفريقيا وأوروبا، وبين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وتأخَّرت أسماء قليلاً، حتى لم يبقَ من الرُّكَّاب غيرها، وظلَّتْ مُتشبِّثَة بالطائرة، كما يتشبَّثُ الغريقُ بطوق النجاة، إلى أنِ افْتقدَها أبوها فرجعَ إليها؛ لينتزعَها من آخر مكان - تشعرُ بارتباطها العاطفي به - كما تُقتَطفُ الوردة من حِضْن الثرى، فهل يبقى لها غيرُ الذبول؟! وكانتْ لحظة الولوج إلى المطار كالبرزخ الزمني بين حال وحال.
كلُّ شيء تغيَّر؛ الوجوه غير الوجوه، وكلامُ الناس غير الكلام، وحركاتهم غير الحركات، حتى الطقس يستثيرُ أحاسيسَ الغُرْبة من مكامنها!
ودخلتْ أسماء في دوَّامة من الأحداث المتسارعة، لم تتركْ لها مجالاً للتفكير، ولا لخيالها مجالاً للانطلاق، كانت الصوَر تمرُّ أمامَ عينَيها متلاحِقة، كما تمرُّ صوَر السينما أمام مشاهدها؛ ابتسامة باردة على وجهٍ حازم هنا، وامرأة نصف عارية تعانقُ صديقًا لها هناك، جماعة من الشُّبان العابثين بأثواب مُزرْكشة غريبة، يتمايلون على أنغام الموسيقا التي تخترقُ آذانَهم، رجل جالس في قاعة الانتظار وعلى رُكْبتيه حاسوب محمولٌ قد انشغلَ بالنظر فيه عن الدنيا كلِّها، شاب بسترة داكنة يحثُّ الخُطى نحو الباب وهو مشغول بمكالمته الهاتفيَّة عن الكون من حوله.
أحسَّتْ أسماء بالدوار، فأغلقتْ عَينيها، واستسلمتْ لهذه البيئة الجديدة التي اكتنفتْها مِن كلِّ جانب، وأطلقتِ العنان لآمالها؛ لعلَّها تخفِّفُ عنها شيئًا من وطْأَة القَلَق الذي يساورها.
لم تلبثْ أسماء إلاَّ أيَّامًا قلائلَ، حتى جاء موعد الدخول المدرسي، كانت تعلمُ حقَّ العِلم أنَّ أخطرَ ما سيواجهها من التحدِّيَات في حياتها الجديدة سيكون في المدرسة.
كانتْ تنتظرُ مشكلاتٍ في مناهج الدراسة ومُقَرَّراتها، أو في التعامُل مع الأساتذة الأوروبيين، وكانتْ تَخْشى ألاَّ تجدَ لها بين زميلات الدراسة صديقةً توافقُها في طباعها وطريقة تفكيرها.
كانتْ تتوقَّع أشياءَ كثيرة من السوء بمكان، ولكنَّ شيئًا واحدًا لم تتوقَّعه، ولا خَطَر ببالها قطُّ.
دخلت المدرسة إلى جانب أبيها، تكادُ تحتمي بشخصه من النظرات العابرة، التي تجزمُ في باطن نفسها بأنها تلاحقُها، وتوجَّها معًا إلى الإدارة؛ لتكميل إجراءات التسجيل.
كانت المديرة غارقة في كُرْسِيِّها الوثير، وأمامها كومة من الأوراق المتناثرة، وما أنْ دخلتْ أسماء وأبوها، حتى رفعتْ إليهما عينين باردتين، فارغتين من كلِّ إحساس، وألقتْ عليهما تحيَّة أبردَ وأفرغ، كأنَّها كانتْ قد استعدَّتْ للقائهما بقراءة ما في ملف التلميذة من المعلومات.
وبعد كلمات مُجاملة مُقْتضبة طلبت المديرة من أسماء أنْ تُغادرَ المكتب، وتنتظرُ أباها في القاعة المجاورة؛ لأنَّ لَدَيْها ما تناقشُ والدها فيه، وخرجتْ أسماء، واستسلمتْ من جديد لهواجسها التي لا تُطاق.
مرَّت ساعة قبل أن يخرجَ الأب من غُرفة المديرة؛ شاحب السحنة، مُمتقع اللّون؛ كأنَّ رُوحه قد اختُطِفتْ مِن جَسَده، وبَقِي منها شيءٌ يسيرٌ تتحرَّك به أطرافُه، وأسرع نحو الباب وأسماء تلحقُ به.
وما أن دَلَفا إلى السيارة، حتى ألْقَى إليها الخبرَ المفجِعَ:
أسماء، أخبرتني المديرة أنَّ عندهم قانونًا يلزمُنا، أقصد: يلزمُكِ.
ورفعتْ أسماء عينيها إلى أبيها في تُؤَدَة، فالتقتْ عيناهما، ووجَدَ الأب الفرصة سانحة ليُلقي كلماته في ألْطَفِ ما يقدر عليه من التعبيرات، وبأرقِّ ما لَدَيه من الحنان:
أسماء، عليكِ أنْ تخلعي حجابَك إنْ شئتِ الالتحاق بالمدرسة.
نزَلَ الخبرُ على رأس أسماء كما تنزلُ المطرقة الحديديَّة الضخْمة، فلا تتركُ من ورائها غير الدمارَ في المشاعر، والشتاتَ في الأفكار، والغصَّة في الحَلْق.
واستدارتْ مرَّة أخرى إلى زجاج النافذة تتأمَّل الكونَ من ورائه، وسكتتْ وسكتَ أبوها، فليس عنده من الكلام ما يُفيدُ، بل ما بَقِي للكلام مجالٌ أصْلاً.
كان الليل ساكنًا؛ فيه وحْشَة القبور، وضيق اليأْس، وقُبْحُ الظلم.
كانتْ أسماء تتقلَّب على فراشها، ولا تكتحلُ عيناها بنومٍ، تناجي نفْسَها بصوتٍ مسموع تارة، وتُخْفِي هواجسَها في نفْسِها تارة أخرى، ثم إذا ضاقتْ عليها منافذُ الأمل، توجَّهتْ إلى ربِّها بالدعاء.
¥