الإحالة إلى (الدار) استعارة مكنية، فالدار هي الدنيا. وقد شبَّه (الدار) بالقاتل، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو (عدم الإبقاء على أحد) على سبيل الاستعارة المكنية، والقرينة (لا تبقي على أحد).
والإشارة إلى الدنيا باسم الإشارة (هذه) التي هي للقريب استحضار لها استحضارًا لغير مرغوب.
ومعنى (لا تبقي على أحدٍ) أنها لا تترك أحدًا، أو لا يبقى عليها أحد، أو لا تبقي على مودة أحد.
وقوله (أحد) يشمل الجميع، أي: كلّ ما هو معدود، وإن كانت الدلالة القريبة هي
(كل إنسان).
والفعل (يُبْقِي) يتعدى بالجار وبغيره، تقول: لا تبقي على أحدٍ ولا تبقي أحدًا.
والنكرة (شان) في النفي تستغرق كلَّ شأن.
واللام في (لها) تفيد التعلق، أي: ولا يدوم شان متعلق بها على حالة واحدة.
وبتأمل قوله (لا تبقي - ولا يدوم لها) تجد أنه يُوَلِّد معنى من معنى على اختلاف في الدلالتين.
ويتضمن البيت بعض المعاني القرآنية، مثل أنَّ الدنيا متاع زائل لا تدوم، وأنَّ الإنسان يغترّ بها ويظنها من خلال تصرفاته بأنه دائمة وأنّه مخلّد، كقوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (آل عمران 185).
4 - يمزِّقُ الدَّهرُ - حتمًا - كلَّ سابغةٍ ## إذا نَبَتْ مشرفيَّاتٌ وخُرْصانُ
تقل في البيت المدَّات (مشرفيات، وخرصان)، وتكثر الحروف المضعفة والتنوين
(يمزّق، الدّهر، كلّ، مشرفياَّت) (حتمًا، سابغةٍ، مشرفياتٌ)، وهي أصوات تعكس نوعًا من الشدِّة والحسم.
وقد بدأ البيت بالفعل المضارع (يمزق) الذي يدل على التجدد والحدوث، في مقابل الاسم الذي يدل على الثبوت (الدهر)، ويدل على الحال والاستقبال في مقابل الماضي
(نبت).
فالفعل المضارع المثبت يدل على العادة أو الحقيقة ما لم يقترن بما يَقْلِب دلالته إلى الماضي أو المستقبل. مثل (لم: لم يقلب. والسين: سيقلب).
فالدهر شأنه أن يمزِّق كل درع سابغة، أي: تامة طويلة.
وتمزيق الدرع كناية عن تمزيق الفارس.
ووصف الدرع بالتمام والكمال ينعكس على لابسيها.
والشرط هنا (إذا نَبَت ... ) لا يمثِّل قيدًا مطلقًا؛ لأن الدهر يمزق إذا نَبَتْ وإذا لم تَنْبُ السيوف المشرفية والرماح فلا يمزق.
وإسناد الفعل للدهر إسناد استعاري؛ لأن المسلم يؤمن أن ذلك الفعل المنسوب للدهر هو من فعل الله - سبحانه وتعالى -، والشاعر مسلم لا يُشَكُّ في صحة إسلامه.
والمصدر (حتمًا) مؤكِّد للفعل (يمزق)، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف.
وفي الأبيات الأربعة يتبدَّى نوع من التناقض بين الزمان والمكان من ناحية، والإنسان من ناحية أخرى.
فـ (الزمان والدهر) و (الدار والدنيا) لا استقرار لأحوالها، فلا يجب أن يطمئن لها إنسان.
والشاعر يستخدم الماهيات المطلقة، فالزمان والدهر والدار ليست خاصة بزمان معيّن، فلا الدهر خاص، ولا الدار دار بعينها، وكذلك (إنسان).
ولا شكَّ أنَّ موقف الشاعر يتَّسم بالتشاؤم، وهو موقف وإن كان لا يتسم وروح الإسلام التي تنبذ التشاؤم فإنه جاء نتيجة ظروف قاهرة طرأت على المسلمين أشبه بتلك التي واجهتها بعض الشعوب الإسلامية في أوروبا وأمريكا في هذا العصر.
5 - وينتضي كل سيف للفناء – ولو ## كان ابن ذي يزن - والغمد غمدان
نضا السيف وانتضاه ينتضيه: سلَّه يَسُلُّه.
والغمد: جفن السيف وهو الجراب.
وغمدان: قصر بصنعاء، بناه «يشرخ بن الحارث» جد بلقيس بأربعة وجوهٍ، به سبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعًا.
وفاعل (ينتضي) هو الدهر. والدهر ينتضي كل سيف للفناء، والمعنى ذو وجهين:
1 - أنه ينتضي من السيوف ما هي للفناء خاصة.
2 - أنه ينتضي كل السيوف من أجل الإفناء بها جميعًا.
ويكون معنى اللام في الأولى للتمليك، أي: السيوف التي هي مملوكة للفناء أو مختصة به، أما الثانية فتكون للغاية، ويكون معناها: ينتضي كل سيف لأجل الفناء.
والفناء هو بؤرة المعنى، فالشاعر يؤكد مقولة (أن الفناء هو ناموس الوجود وقانون الحياة).
وجاءت الجملة المصدَّرة بـ (لو) التي بمعنى (إن) اعتراضية حالية.
¥