أحمد راتب النفَّاخ شيخ العربيَّة في بلاد الشام في ذكراه العاشرة، كتبها الأستاذ الطيان
ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:23 م]ـ
أحمد راتب النفَّاخ شيخ العربيَّة في بلاد الشام في ذكراه العاشرة، كتبها تلميذه الوفي الأستاذ محمد حسان الطيان أحسن الله إليه.
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}
مرت على وفاة شيخنا النفّاخ [1] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn1) سنوات عشر كأنها دقائق عشر، فلم يزل الرجل ماثلاً في الأذهان، حاضراً في الكِيان بما حواه من علم، وما زرعه من مُثُل، وما خلّفه من آثار، وما بناه من رجال، وما وقف من مواقف، بل لن يزال كذلك ما بقي لساننا يلهج بالعربية، وما بقي قلبنا يخفق بحب العربية.
فقد عاش ما عاش لهذه اللغة، لا يكاد يخرج منها إلا إليها، ولا يرى نفسه إلا فيها، ولا ينقلب عنها أو يلتفت عن محبتها’, أو يتقاعس عن الجهاد في سبيلها.
حمل رايتها رَدَحاً من الدهور هو كل ما كتب له أن يعيش في دنيا الناس، وتولّى الذود عن حياضها، والبحث في دقائقها، واكتناه أسرارها وخباياها، واجتلاء معانيها ومبانيها. لم يصرفه عنها صارف، ولم يلتوِ له فيها طريق، ولم يلذَّ له دونها مطعم ولا مشرب، ولم يبال ما أصابه من أذيةٍ في سبيلها. فهو هي، وهي هو، إنها قضيته التي عاش لها ومات لها، ولقي ما لقي من أجلها، وتلبّس بعزّتها وشموخها ولسان حاله يردد قول القاضي الجرجاني:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس مَنْ داناهمُ هانَ عندهم ** ومن أكرمتْهُ عزّةُ النفس أُكرِما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قد أرى ** ولكن نفسَ الحرِّ تحتملُ الظما
ولم أبتذِل في خدمة العلم مهجتي ** لأخدمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أذلّوه جهاراً ودنَّسوا ** محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
ترفع وشموخ:
لم يكن أستاذنا النفاخ - أعلى الله مقامه - يلتفت إلى شيء من مباهج الدنيا، وكأنه رجل من رجال السلف، يخالُهُ المرء منتسباً إلى القرون الأولى التي وصفها سيد البرية بالخيرية: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) [2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn2) لهذا ما كنت تراه يترفّع عن كثير مما يتهافت خاصّة الناس عليه بلْهَ عامَّتهم، وقد وصف يوماً صديقاً له اعتذر عن تسنّم مقاليد وزارة في الدولة بقوله: ((إن هذا الرجل يترفّع أن يضع رجله حيث يضع الكثيرون جباهَهم)) ويقيني أن أحقَّ الناس بهذا الوصف هو شيخنا النفاخ، فقد كان حقًّا من هذا الصنف الذي لا تستهويه الأهواء، ولا تعصف به الرغائب، ولا تثنيه المكاره.
قلت له مرة، وقد رأيت ما يعانيه في تنقلاته بين البيت والجامعة: ((لم لا تتخذ لنفسك سيارة؟)) فنظر إليَّ شزراً ثم قال: ((وهل تريد أن أضع على رأسي قرنين؟!)).
وطلب إليه أستاذ كبير أن يدرِّس في جامعة تُجزل العطاء لأساتذتها فرد بأنه لو قيِّض له أن يدرِّس ثَمَّةَ لأبى أن يتقاضى فلساً واحداً مقابل تدريسه، فهو أكبر من أي مال مبذول، وعلمه أعظم من أيِّ عَرَض من أعراض الدنيا، من أجل هذا كان يبذله لبعض طلاب العلم الفقراء، ويضنَّ به على كثير من طلاب السمعة والجاه الأغنياء.
ومن هنا كان الأستاذ - عليه رحمة الله - قاسياً على نفسه أولاً، قاسياً على من حوله ثانياً، ولم تكن قسوته على الناس إلا فرعاً من قسوته على نفسه وجزءاً يسيراً منها، فقد حرم نفسه متاعاً كثيراً، ونعيماً موصولاً، ومراتب تتقطع دونها الرقاب، وقنع بأن يقبعَ في كِسْر بيته على حين ينعم الآخرون بما حصّلوه من غزير علمه، وبما نالوه من عظيم فوائده، وهو في هذا أشبه الناس بالخليل بن أحمد حين قال في حقِّهِ تلميذه النضر: ((أكلنا الدنيا بعلم الخليل وهو في خُصٍّ بالبصرة لا يُشعر به)) ولئن صدقت هذه الكلمة في رجل بعد الخليل لتصدقَنَّ على شيخنا النفاخ فقد أكلنا الدنيا بعلمه وهو قابع في كِسْر بيته، رحمه الله وعوضه خيراً.
ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:24 م]ـ
صلابة في الحق:
وقد عرف الأستاذ النفاخ بمواقفه الصُّلبة، وإرادته القوية، لا يداهن صاحباً، ولا يجامل جليساً، ولا ينحني لكبير، ولا يخشى في الله لومة لائم، وإذا ما رأى الرأيَ مضى دونه مجاهداً، لا تلين له قناة، ولا يثنيه هوى، ولا يؤثر فيه ترغيب ولا ترهيب.
كنت عنده مرة فزاره وزير كبير له شأن خطير في دنيا السياسة والرئاسة، فرحب به وأكرم وفادته، وأسمعه من صنوف العلم وأفانين القول ما ملك به فؤاده، وانتزع منه إعجابه، ثم كالَ له من صنوف النقد والتعريض ما لا يقوى عليه أحد في ذلك الزمان، حتى لقد أشفق بعض أهل المجلس على صحة الأستاذ لما اعتراه من حِدّة، وما بدا عليه من أمارات الانفعال، وكأني به الصورة الحية لمقولة الرسول الكريم: ((ألا لا يمنعَنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أن يقول بحقٍّ إذا علمَهُ)) [3] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn3). فقد أعلن الحق الذي علمه، ولم يخشَ صولة الحاكم، ولا بأسَ المتحكِّم، وإنما قال: ((لا)) بملءِ فيه، فكان رجلاً، والرجال قليل، وما أصدق ما قاله الأول فيه وفي أمثاله: ((يعجبني من الرجل إذا سيمَ خسفاً أن يقول لا بملء فيه)).
¥