ربما كان من أهم جوانب الكتاب هو توقفه عند قضية التراث الإسلامى لغرناطة رغم رحيل المسلمين عنها طوعا أو كرها. إن انتماء التراث الغرناطى بشكل أو بآخر إلى الحضارة العربية الإسلامية كان أمرا لا يقبل الجدل حتى وقت قريب، لكن هناك من حاول تبسيط المسألة وزعم أن أهل غرناطة المسلمين قد تم ترحيلهم إلى مناطق إسبانية أخرى وتم استبدالهم بمواطنين من الشمال الإسبانى، وخلص إلى نتيجة مفادها أن ما يظنه الناس تراثا إسلاميا فى غرناطة ليس إلا ثقافة إسبانية محضة. إن باروخا يؤكد فى هذا الكتاب المرة تلو المرة أن الأمر لم يكن بهذه البساطة وأن التراث الإسلامى لم يفارق غرناطة أبدا، فالوثائق تؤكد عودة الكثيرين من أهل غرناطة إلى بيوتهم بعد طردهم منها، ولو أن تلك العودة كانت بعيدا عن أعين رجال السلطة. ويستدل باروخا فى ذلك بالتشابه الواضح بين عادات أهل غرناطة وأهل المغرب العربى فى المأكل والملبس والمعاملات والزخرفة.
لا يخشى المؤلف أن يشير إلى خطأ المؤرخين الإسبان القدامى، ويذكر – فى صراحة غير معهودة فى البحث التاريخ الإسبانى المعاصر له – أن الظروف السياسية فى القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت تحول دون أن يكتب المؤرخون بموضوعية. يشير باروخا إلى أن المؤرخين الإسبان قد حذفوا من مذكرة نونييث مولاى كل العبارات التى تهاجم الكنيسة.
هناك شئ يلفت النظر فى هذا الكتاب: المؤلف يحاول الربط بين الواقع الاجتماعى فى شمال إفريقيا ووضع الموريسكيين فى إسبانيا. إذا كان فهم قضية مسلمى غرناطة ضروريا لفهم تاريخ إسبانيا بكل أبعاده، فإن دراسة "الآخر"، أى المسلم المغاربى، تعد وسيلة ضرورية لفهم تاريخ الموريسكيين، وبالتالى لفهم التاريخ الإسبانى بشكل موضوعى. هذا هو النهج الذى سيسير عليه غوثالبيس بوستو فى كتاب عن الموريسكيين فى المغرب ربما تنشر ترجمته العربية قريبا بإذن الله. إذن فالباحث الأوربى يرى – ولا نظن أنه يخطئ- أن معرفة "الآخر" تسهم كثيرا فى معرفة الذات.
يركز باروخا على جانب لم يهتم به أحد، وهو جانب العلاقات الطيبة التى ربطت بين مسلمين ومسيحيين فى إسبانيا حتى بعد سقوط غرناطة وكيف أن هذه العلاقات كان لها أثر فى تخفيف وطأة الحياة على المسلمين الذين كانوا يتعرضون لملاحقة محاكم التفتيش. ونذكر فى هذا الإطار الرسالة التى بعث بها موريسكى من الجزائر إلى صديق مسيحى فى إسبانيا. نذكر كذلك أن كوسمى بن عامر لم يجد مشكلة فى العثور على ضامن مسيحى حينما اشترطت محكمة التفتيش ذلك، والجدير بالذكر أن الموضوعين موجودان فى كتاب "الموريسكيون الأندلسيون" الذى أصدره المجلس الأعلى للثقافة منذ شهور.
لعل باروخا هو أول من أشار إلى الأثر الإسلامى الواضح فى أمريكا الجنوبية. أشار إلى ذلك منذ ستين عاما تقريبا، ولم تهتم الدراسات الموريسكية بهذا الموضوع إلا فى السنوات الأخيرة.
على أن إعجابنا بباروخا وكتابه لا يجب أن ينسينا أن المؤلف – فى رأينا-- قد جانبه الصواب فى بعض الأحيان.
المؤلف ينزع دون شك إلى الموضوعية، لكنها موضوعية لا تخلو من تعسف فى بعض الأحيان، فهو يتعاطف مع أصحاب المشكلة، لكنه لا يتعامل مع الإسلام كدين سماوى، وبالتالى فإننا نلمح فيه رفض محكمة التفتيش التعسفية وتبنى وجهة نظر الكنيسة من الناحية الروحية، أى أنه لا يعارض تنصير المسلمين، لكنه يرى أن تتم عملية التنصير دون عنف. إن بعض الباحثين الأوربيين المعاصرين يتبنون وجهة نظر باروخا ولا يعترضون على التنصير فى حد ذاته وإنما يعترضون على الوسيلة التى اتخذتها الكنيسة الكاثوليكية لتحقيق ذلك خلال القرن السادس عشر.
إن عدم اعتبار الإسلام دينا سماويا هو الذى أبعد كثيرا من المؤرخين عن الطريق الموضوعى الصحيح لفهم أبعاد المشكلة. وخوليو كارو باروخا قد بذل جهدا ملحوظا فى عرض المشكلة الموريسكية بموضوعية، غير أنه فى الصفحات التى تناول فيها الشعائر الدينية لم يتمكن من المحافظة على هذه الموضوعية.
هناك عدم تفهم لجوانب الثقافة الإسلامية، حيث يخلط باحثون أوربيون بين المبادئ التى يأمر بها الدين وبين الخرافات التى يبتدعها البعض، ففى بعض الكتابات الإسبانية حديث عن احتفال المسلمين بعيد الأضحى بذبح طفل مسيحى، وهناك حديث عن دفن المسلم ومعه طعام وشراب فى قبره، وهناك حديث عن كتابة فقهاء المسلمين لنبوءات تتحدث عن وصايا جديدة بعث بها النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى الأمة.
إن عدم فهم الدين الإسلامى هو الذى جعل بعض الباحثين الأوربيون يظنون أن المسلم لا يحترم السيدة مريم العذراء، ومن نافلة القول أن هذا الخطأ لا يقع فيه أى دارس جاد للإسلام و للآيات القرآنية التى تحدثت عن السيدة مريم.
يتميز كتاب باروخا بالإشارة إلى مصادر وفيرة، وهذا شئ محمود، غير أن بعض تلك المصادر لا يمكن الاستناد إليها لأنها –كما يشير باروخا نفسه فى مواضع أخرى- لا تتمتع بالمصداقية. وقد رأينا بالفعل أن كثيرا من كتابات القرن السادس عشر الإسبانى يغلب عليها الجانب الدعائى. الشئ الغريب حقا هو أن يبنى باروخا بعض أحكامه عن المسلمين على كتابات لمسيحيى إسبانيا لم يقصد أصحابها سوى المبالغة والسخرية من المسلمين.
قد نتفق أو نختلف مع المؤلف فيما ذهب إليه، أما ما لا خلاف عليه فهى قيمة الكتاب كنموذج متميز فى دراسات علم الاجتماع وكعلم موسوعى (إنه ببساطة يتوقف عند كل موضوع بالدرس والتحليل، ثم هذا الكم الهائل من المصادر القديمة والحديثة التى يعرضها الكتاب).
وهناك ملمح آخر فى هذا الكتاب: يلفت نظرنا فى أسلوب باروخا عنصر التشويق والربط بين الفقرات والفصول، مما يجعل قراءة الكتاب –على الأقل فى نسخته الأصلية- سهلة وممتعة.
هكذا أصل إلى نهاية المقدمة وأترك الكتاب بين يدى القارئ , ولا يفوتنى أن أعبر عن امتنانى لكل من السيدة كارمن كارو باروخا والسيد بيو كارو باروخا لتعاونهما فى سبيل أن تخرج الترجمة العربية لهذا الكتاب إلى النور.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
جمال عبد الرحمن
¥