تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم يمض وقت طويل حتى اعترف كتاب الغرب بحركة التغريب وجاءوا يبحثون مدى ما وصلت إليه وما حققته من هدف. وقال جب في كتاب "وجهة الإسلام" إن حركة التغريب كانت بعيدة المدى بإنزال الإسلام عن عرشه في الحياة الاجتماعية.

وقد عملت "حركة التغريب" في جملة ميادية، بدأ العمل فيها غربيون نزلوا إلى المعركة قمة، ثم أسلموا مقاليد الأمور من بعد إلى كتاب من العرب والمسلمين، حتى يبعثوا الثقة في نفوس المواطنين إلى الصوت الأليف الذي يجد الصدى، وفي كل ميدان من ميادين العمل كان النفوذ الأجنبي يجد من يعاونه من أبناء الأوطان، وإذا كان هجومه على الدين قاسياً، فإن من المؤسف أن نجد كثيراً ممن حمل لواء هذا الهجوم من الذين ثقفوا أول الأمر ثقافة إسلامية وكانت اللغة والدين في الأغلب هما الميدانان الكبيران للعمل البعيد المدى، وإن كان التغريب لم يترك ميداناً دون أن يوغل فيه ويسممه ويبعث فيه الشك.

وكانت كلمة "حرية الفكر" والتقدمية، ومقاومة الرجعية، والتطور من الكلمات البراقة التي لعبت دوراً كبيراً في خداع الجماهير.

واستطاع التغريب أن يجد المنافذ المرنة الماكرة إلى ما يريد دون أن يصطدم بالعقائد أو يواجه المواقف الحرجة.

وإن كان المبشرون قد هاجموا المقومات صراحة، وقاموا بعملهم في عنف أول الأمر، فإنهم لم يلبثوا أن تحولوا عن هذه الخطة، واختفوا من المسرح، واستبطنوا أهدافهم، وحولوها إلى صورة أخرى أكثر دقة ومكراً. فبرزت أحاديث صورية فيها تمجيد للدين وللغة ولمقومات الأمة فإذا تخدرت أفكار القراء، ووثقوا بالكاتب وكتاباته، بدأت عملية التشكيك الخفي، المدخول الدقيق، بل إن بعض الكتاب الذين عملوا مع التغريب وهاجموا المقومات الأساسية في أول الأمر ولم يلبثوا بعد قليل أن تحولوا مظهرياً، وخاضوا الحديث في أقدس مقدسات الأمة، عاملين على كسب الثقة الشعبية العامة في هذا المجال، حتى يتأتى لهم من بعد أن يحققوا في الخفاء ما يهدف إليه دعاة التغريب، لقد اختفت المعركة من على المسرح ودخلت إلى الكواليس، وأصبح مجال العمل، هو مناهج التعليم نفسها، أو مقالات الصحف أو فرض المذاهب الفكرية الغربية، وتأكيدها والاختفاء وراءها. وخاصة ما يتصل منها بمقاومة القيم العربية الإسلامية، كالمذاهب المادية والنظريات الفلسفية والنفسية التي تدمر قيم الإنسان وتعريه وتكشفه على نحو يقلل من كرامته، وفي هذا المجال ظهرت عشرات من النظريات والمذاهب والفلسفات المضطربة الذاهبة إلى كل مجال، وكان من شأن إذاعة هذه المذاهب والنظريات إحداث بلبلة فكرية من شأنها أن تقضي على الإيمان بالقمومات الأصلية. وتدفع الفكر العربي الإسلامي في متاهات وتخبطات.

بل إن الخطط التي قدرها الغربيون إزاء موقف المسيحية والكنيسة حين حاولت أن تقف أمام النهضة والحضارة، فقد حاولوا نقلها إلينا مع الفارق البعيد بين موقف الإسلام من الحضارات والنهضات وموقف المسيحية، فلقد كان الإسلام قادراً دائماً على مواجهة كل تطور، وفيه من السماحة والتفتح والاستجابة ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، فكان هذا الاتجاه في نقل موقف الغرب من جمود الكنيسة ليس إلا لوناً من هذه البلبلة الفكرية التي هي قوام دعوة التغريب.

ولم تكن حملات التغريب على القيم والمقومات والتاريخ واللغة والدين في الشرق قائمة على أساس علمي على نحو ما يذهب إليه أسلوب البحث العلمي، وإنما كانت حملات يغلب عليها الهوى والتعصب وتسيطر عليها ريح الحقد والاستعلاء وخلق الفوارق البعيدة بين الجنس الأبيض وغيره من الأجناس مع سيطرة فكرة التفرقة بين أصحاب الحضارة وبين الشعوب التي كان لها دور من قبل في رحمل الحضارة، حين كانت أوربا تعيش في الوحل والظلام، فإذا أضيف إلى هذا ذلك الإصرار العجيب على إنكار فضل العرب والمسلمين على الحضارة على نحو فيه مغالطة وإنكار لوقائع التاريخ نفسه تبين إلى أي مدى يذهب دعاة التغريب، فآسيا هي المتبربرة، وأوربا هي المتحضرة وليس أكذب ولا أبعد عن الحقيقة ما يحاول الغربيون أن يقولوه في هذا المجال من أن التاريخ والحضارة قد بدأت من أثينا ومرت على روما .. ثم اختفت ألف سنة لتظهر من جديد في حركة النهضة، أما ما قبل النهضة فلا شيء، وفي هذا الرأي ما فيه من الخطأ ومجافاة الحقيقة والواقع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير