وحُكي عن أحدهم أنه شعر بخجل عظيم من الناس عندما صلى يوماً في الصف الثاني، فعلم أن راحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه. وهذا من الدقيق الغامض الذي يغفل عنه الكثير من الناس.
فلما كان الأمر كذلك كان الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص.
والسؤال: ما الاعتكاف المطلوب للتحقق من سلامة القلب من شوائب الإخلاص؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتلخص في الجهة التي نطرح موضوع الاعتكاف من خلالها .. وهي أن الاعتكاف المطلوب ليس هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين ولا عناوين للمتزاورين، ولا موائد للأكل، ولا حلقات للضحك وفضول الكلام. إنه ليس الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.
إنه ليس الاعتكاف الذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب وتقوية العلاقات الاجتماعية وتبادل الآراء الطبية والنفسية ... ونحوها.
إن الاعتكاف المطلوب إنما هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إن الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين؛ وترفع فيه أكف الضارعين المخبتين، ويسعى المرء فيه جاهداً لئلا تضيع من ثواني هذه الأيام المعدودة لحظة واحدة في غير طاعة فيفوته قطار الفائزين. إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين .. ولعل فيما يأتي من الأمثلة توضيحاً لمن أراد أن يجعل من اعتكافه وسيلة انتقال للأفضل. أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
في العبادات:
لقد بلغ السلف الصالح في جوانب العبادات غايات يستصعب ضعاف الهمم السعي إلى مقاربتها فضلاً عن الوصول إليها .. وأذكر هنا نماذج لحال السلف في عبادتين عظيمتين هما:
1 - مداومة ذكر الله.
2 - الصلاة ..
مع التركيز على ذكر إمكانية اللحاق بهم رحمهم الله باستغلال فرصة الاعتكاف.
1 - المداومة على ذكر الله:
قال مالك بن دينار - رحمه الله -: (ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله - عز وجل - فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً للقلب) (6).
وقال ابن القيم - رحمه الله -: (وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله - تعالى - إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي، (أو كلاماً قريباً من هذا)، وقال لي مرة: (لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها ولأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاماً هذا معناه) (7).
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - مبيناً أهمية بقاء المرء في ذكر دائم: (الذكر للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟) (8).
لقد جاءت السنة بأذكار كثيرة متنوعة وذكرت فضلها وما أُعد لصاحبها من الثواب .. بل إن الإمام ابن القيم - رحمه الله - عدّ في (الوابل الصيب) ثمانين فائدة في الذكر .. ولا شك أن الناس إلا من رحم الله على جانب كبير من التفريط في المداومة على ذكر الله في كل حال .. لذلك لم يصلوا إلى اللذة التي يستشعرها الذاكرون الله كثيراً.
قال بعض العارفين: (وإنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب) (9). وإن الاعتكاف فرصة عظيمة يحسن بالمرء استغلالها ليصل إلى مرتبة عالية؛ فيكون لسانه رطباً من ذكر الله - تعالى -. ليس للمعتكف شغل عن أذكار الصباح والمساء التي فرط الناس فيها إلا من رحم الله، وليس له شغل عن أذكار الأذان والنوم والاستيقاظ، والخروج والدخول إلى المسجد، وأذكار الطعام والشراب، والأذكار المطلقة الكثيرة المتنوعة.
يستطيع المعتكف أن يحرص على كل ذكر منها في وقته ويحاسب نفسه على ما فاته، ولا يدع نَفَساً من أنفاسه يخرج بغير ذكر الله - تعالى - .. فمن كانت هذه حاله في عشرة أيام متواليات رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه.
ألا وإن من أعظم الذكر كما هو معلوم قراءة القرآن الكريم. قيل لأخت مالك بن أنس: (ما كان يشتغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف في بيته). قال أبو بكر الأوسي: (كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير القراءة طويل البكاء) (10).
قال الطحاوي: (سمعت عن أحمد بن أبي عمران يحكي عن بعض أصحاب محمد بن الحسن، أن محمداً كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن) (11).
¥