فهؤلاء - رحمهم الله - كانت قراءتهم كثيرة في سائر أيام صيامهم، ووردت عنهم وعن غيرهم من السلف زيادة الاهتمام بكتاب الله في رمضان.
فعلى العاقل أن يجعل من اعتكافه فرصة لتقوية علاقته بكتاب الله - تعالى - قراءة وتدبراً وخشوعاً وفهماً .. ولا شك أن الاكتفاء باستعراض كتاب الله كله مرة واحدة فقط في هذه الأيام العشرة يُعد من التفريط؛ إذ فيم سيمضي المعتكف وقته إن لم يمضه في تلاوة كتاب الله - تعالى -؟
جاء عن الحسن أنه قال: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه) (12).
فلو حرص المرء على لحظات اعتكافه ألاّ تنقضي إلا في ذكر وتلاوة لكان لاعتكافه لذة وحلاوة، ولأصبح من السهل عليه أن يتشبه بالسلف الصالح.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن من ثمرات المداومة على ذكر الله في الدنيا أنها تعطي الذاكر قوة تعينه على زيادة عمله خلال يومه .. فقد ثبت أن الرسول علّم ابنته فاطمة وعلياً - رضي الله عنهما - أن يُسّبحا ويحمدا ويُكبّرا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما، ذلك لما سألته أن يحضر لهما خادماً، وقال لها: (إنه خير لكما من خادم) (13).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم (14).
والمعكتف بحاجة لهذه القوة حتى يستعين بها على الزيادة من العبادات في هذا الموسم العظيم.
الصلاة:
قال محمد بن عمران: سمعته أي محمد بن سماعة (ت233ه) يقول: (مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي (15). إن مثل هذا الأثر يحتاج أن يقف المرء معه ليتأمل حال نفسه ومدى اهتمامه بأداء الصلاة على الوجه الأكمل .. ومتى ما وجد التقصير في نفسه توجب عليه أن يجعل من اعتكافه فرصة ليصل إلى مثل هذه المراتب العالية في أداء الصلاة .. ومن فرط في التكبيرة الأولى حاسب نفسه أشد الحساب؛ فكيف يساغ له أن يتأخر عن إدراك التكبيرة الأولى وهو مقيم في بيت من بيوت الله - تعالى -؟ كما أن التأخير عن إدراك التكبيرة الأولى له دلالة على إهمال السّنّة القبلية وفقد أجر انتظار الصلاة بين الأذانين، ونقص الخشوع، وغير ذلك. والله المستعان.
قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء) (16).
وقال مجاهد - رحمه الله -: (كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته) (17).
وهذه مرتبة أخرى عظيمة ينبغي أن يحرص المرء عليها وهي مجاهدة النفس على تعظيم المولى - سبحانه وتعالى - في الصلاة، وحسن الاتصال فيها بتحقق الطمأنينة والخشوع والخشية .. والمعتكف تتهيأ له من الفرص ما لا يتهيأ لغيره بسبب انقطاعه عن كثير من علائق الدنيا .. فعليه أن يجاهد نفسه للوصول لهذه الغايات وأكثر منها من خلال أيامه العشرة لتكون بداية انطلاقة جادة له بعد ذلك.
ألا وإن من أعظم وأجلّ القربات التي تتهيأ بالاعتكاف خاصة في رمضان قيام الليل .. ذلك الشرف العظيم الذي فرط فيه الناس إلا قليلاً.
كان سفيان الثوري - رحمه الله -: (إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل) (18).
وجاء عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب عليه لا يأتيه النوم فيقول: (اللهم إن النار أذهبت مني النوم. فيقوم فيصلي حتى يصبح) (19).
وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعتكف لإطالة القيام بكتاب الله - تعالى - وتشجيع نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه النماذج العظيمة من السلف ونحوها.
كيف لا وقد قال أبو سليمان: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا) (20).
كذلك يحسن المحافظة على سنة الفجر والإشراق والنوافل المطلقة والمقيدة حتى ينوّع المرء من عباداته، ويعتاد ما انشغل عنه في سائر أيامه.
في المباحات:
هناك جوانب أخرى يحسن بالمعكتف أن يخالف ما جرى أكثر الناس عليه فيها .. أذكر منها ثلاثة أمور لعلها جماع كثير من الخسران:
1 - فضول الكلام.
2 - فضول الأكل.
3 - فضول المخالطة.
1 - فضول الكلام:
¥