ولْيَعلم المسلم أنّه سيقدّم لربّه يوم القيامة حسابين اثنين: حسابا عامّا عن حياته كلّها، وحسابا خاصّا عن طور الشّباب وحده، وإن أردت دليلا على ذلك، فتأمّل ما رواه التّرمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟)).
والحظ معي أمورا ثلاثة في هذا الحديث:
1 - رفع الله تعالى لهمّة الشّباب:
فهو يصوّر لك هذه المرحلة من العُمُر مرحلة جدّ وكدّ وعمل، لا مرحلة لهو ولغو وكسل .. يصوّر لك الشّاب أنّه واقف بين يدي الله مسؤول، لا أنّه مراهق طائش مخبول .. لذلك نرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث الشّباب الّذين بين يديه حديث الكبار، لذلك كانوا من الشّباب الأطهار والعاملين الأخيار .. انظروا إليه صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث ابن عبّاس تلك الأيّام وهو في أوّل مراحل شبابه: ((يَا غُلاَمُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)) [رواه التّرمذي].
أترون أين يضع النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات النيّرات .. يضعها في قلب شابّ وهو في فورته وطموحه وتكامل قوّته، ليكون قويّ العزيمة عالي الهمّة.
ولقد أنبتت هذه الكلمات شجرة مباركة مورقة لم تنقطع ثمارها، ولم تذبل أوراقها، شجرة تدعى بابن عبّاس ترجمان القرآن، وبحر وحبر الأمّة ..
2 - أنّ الشّباب نعمة من أجلّ نعم الله على العبد، لذلك خصّه بالذّكر بعد العمر، وكلّما عظُمت النّعمة عظُم السّؤال عنها، والحساب عليها .. ألا ترى إلى أولئك الثّلاثة (العالم والمنفق والمجاهد) كيف عظّم الله عليهم الحساب، وجعلهم أولى النّاس بالعذاب؟! ألا ترى كيف خاطب الله نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)» [الأحزاب]؟ فكذلك المرء في مرحلة الشّباب له من القوّة والحماس ما لا يجده في مراحله الأخرى، فإن صرف هذه النّعمة في طاعة الله كان من السّابقين، وإن صرفها في معصية الله كان من الخائبين.
3 - أنّ الشّباب عنوان العمر، فغالبا يكون من عاش في شبابه على أمر وطّن نفسه عليه، ودام عليه، لذلك كان من حكم العرب: " مَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ ".
لذلك فإنّ الحديث عن الشّباب لا يخُصّ الشّباب فحسب .. نعم .. هو يعنيهم قبل كلّ أحد، ليستدركوا ما قد فاتهم، ويجمعوا أشلاءهم ورُفاتهم .. ولكنّه يخصّ أيضا أولئك الصّبية الصّغار، فهم سيسلكون هذا المشوار .. ويخصّ أيضا أولياء الأمور، لأنّهم مسؤولون عنهم أمام العزيز الغفور ..
فأضع بين يديك هذه الوصايا سائلا المولى تبارك وتعالى أن تكون نافعة، وللخير جامعة.
1 - تذكّر الغاية الّتي من أجلها خلقت ..
فقد قال جلّ وعلا: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذّاريات: 56].
هذه هي الغاية التي خلق الله لها الخلق، فما خلقنا الله لنُضيع الأعمار أمام المسلسلات، وأمام المباريات، وأمام الأفلام، وأمام هذا العبث واللّهو الّذي تحوّل في حياة هذه الأمّة المسكينة إلى جِدّ؟!.
فغاية الشبّاب هي هوايتهم، وهوايتهم هي غايتهم، وكانت هواية شباب الإسلام قطع الفيافي والقفار لجمع الأحاديث والآثار، وسنّة النبيّ المختار ..
كانت هوايتهم إعلاء كلمة الواحد القهّار، وضرب أعناق الكفّار ..
كانت هوايتهم صيام النّهار والقيام للعليّ الغفّار ..
¥